الجزيرة نت

حفلت المقابلة التلفازية التي أجراها عبد الحليم خدام نهاية العام المنصرم من مقره في العاصمة الفرنسية، بإشارات وبتصريحات. ولأن التصريحات تعلقت في معظمها بقضية اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري الساخنة فقد أثارت القدر الأكبر من الاهتمام، لاسيما أنها تأتي بعد ما شاع من أن لجنة التحقيق في عملية الاغتيال قد استمعت مسبقاً لشهادة خدام.

والحقيقة أن الإشارات في حديث خدام لا تقل أهمية عن التصريحات. من هذه الإشارات كانت تلك المتعلقة بما تعتبره أوساط أميركية وأوروبية الآن "مسألة السُنة". ففي عدة مواضع من مقابلته، أرسل عبد الحميد خدام رسائل غير مباشرة للسوريين السُنة، وبالإلحاق لنظرائهم اللبنانيين.

قال عبد الحليم خدام إنه قدم لبشار الأسد في مطلع رئاسته دراسة حول إصلاح الشأن الحزبي والوطني السوري، وحول قضايا الديمقراطية والمشاركة. وأن الدراسة تضمنت -وهذا هو الأهم- تصوراً حول العروبة والإسلام (ولا يفهم هنا إلا إسلام الأكثرية السورية السُنية)، وتعزيز الوحدة الوطنية في البلاد (التي تعاني منذ مطلع الثمانينيات على الأقل من الهيمنة العلوية على الحكم).

كما ذكر خدام أنه شهد توجها في القيادة السورية لاعتبار حركة الحشد السُني اللبناني التي قام بها الحريري خطرا على سوريا ومصالحها في لبنان. وتساءل خدام مستهجنا: أليست السياسة اللبنانية كلها طائفية؟ كيف يمكن اعتبار التفاف السُنة حول الحريري خطرا بينما لا يرى التفاف الشيعة حول نصر الله وبري كذلك؟

ليس من السهل الآن تقدير الظروف التي قرر فيها خدام، أحد أعمدة النظام السوري لأكثر من ثلاثة عقود، الانشقاق على حكم الرئيس بشار الأسد. ولكن من الواضح أن خروج خدام إلى باريس منذ شهور لم يكن فقط لكتابة مذكراته، كما قال في مقابلته، وأنه قد قرر وضع نفسه في موقع المعارض للنظام وفي موقع يؤهله لحكم سوريا في حال استطاع الضغط الخارجي إسقاط النظام الحالي.

والإشارات للأكثرية السورية السُنية لابد أن تفهم في هذا السياق. أن يسقط النظام أو لا، وأن يصل خدام يوما إلى حكم سوريا أو لا، ليس الموضوع الملح هنا. الموضوع هو "المسألة السورية السُنية".

ليس هناك من شك في أن قطاعا واسعا من السوريين السُنة يشعرون بالغبن. وكان هذا الشعور قد وصل ذروته مطلع الثمانينيات عندما أخذ الصدام الدموي بين النظام والقوى الإسلامية إطار الصراع بين أقلية علوية حاكمة وقوى سياسية إسلامية سُنية.

وللتذكير، فقد كان خدام (الذي ينحدر من أسرة سورية سُنية) آنذاك أحد أهم رجالات الحكم، وأحد أبرز خصوم التيار الإسلامي. قليلا، قليلا، تراجعت حدة الصراع الداخلي وتراجعت معها الأجواء الطائفية في البلاد.

وقد ساعد على هذا التراجع براغماتية حافظ الأسد، وحرصه على الظهور بمظهر الحاكم القومي العربي لا العلوي، وعلاقاته الوثيقة بعدد من كبار العلماء السوريين السُنة، ودخول سوريا في سلسلة من الصراعات لتأمين دورها الإقليمي، ثم زواج بشار الأسد من فتاة سورية بريطانية تنتمي لأسرة سُنية.

ولكن الأجواء الطائفية لم تنته تماما. وقد عاد السؤال الطائفي من جديد بعد اتهام الحكم السوري باغتيال الرئيس الحريري (زعيم سُنة لبنان) وتعاظم التدافع الطائفي في العراق ولبنان.

قبل شهور قليلة، حذر الملك الأردني عبد الله الثاني من هلال شيعي، يمتد من إيران إلى العراق وسوريا ولبنان. وسرعان ما لحق الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، بالملك عبد الله في التحذير من التدخلات الإيرانية الطائفية في العراق.

وقد تكررت القراءة الطائفية الإثنية لمنطقة المركز العربي الإسلامي في أكثر من دراسة وتقرير إستراتيجي أميركي خلال العام الأخير. أغلب هذه التقارير صدر عن مؤسسات أميركية بحثية غير رسمية؛ ولكن المعروف في واشنطن أن العلاقة بين ما هو رسمي وغير رسمي هي علاقة وثيقة في معظم الأحيان.

بعض السياسات الأميركية الرئيسية تبدأ بدراسات ومقترحات وأوراق تقدمها مؤسسات بحث غير رسمية، وبعض من الندوات ومشاريع البحث التي تتعهدها الأخيرة يقصد بها مساعدة صانع القرار على تحديد خياراته وتوجهات سياسته.

وقد برزت في العاصمة الأميركية منذ عام على الأقل بوادر على إدخال العامل الطائفي والإثني باعتباره عاملاً أساسيا في رسم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. كما ظهرت مؤشرات على إدراك أميركي بتعاظم القلق العربي السُني (والعربي في شكل عام) من تداعيات الاحتلال الأميركي على وحدة العراق الداخلية، وما أدت إليه سياسات الاحتلال من سيطرة طائفية على مقدرات الدولة العراقية الجديدة.

ولعل تصريحات عبد الله الثاني وسعود الفيصل جاءت في هذا السياق أصلاً. وما لوحظ بهذا الشأن في واشنطن، سرعان ما انتقل إلى العواصم الأوروبية الرئيسية، لاسيما لندن وباريس.

يمكن تحديد اتجاه التفكير الأميركي الأوروبي (الذي لم يزل يشوبه الكثير من الغموض) فيما يتعلق بالمشرق العربي الإسلامي بما يلي: أن الإسلام هو أحد المشاكل الرئيسية للعالمية الغربية، ولكن منطقة المركز الإسلامي (العربية الإيرانية التركية) هي أكبر مشاكل المجال الإسلامي على الإطلاق.

هذه المنطقة الهامة إستراتيجيا ونفطيا وثقلا سكانيا مجاورا للحوض الأوروبي، تستعصي على السيطرة. إحدى وسائل كسر قوى الممانعة في هذه المنطقة، هي إحياء التوجهات والهويات الطائفية والإثنية، خاصة أن دول المنطقة كلها تقريبا تضم تنوعا طائفيا وإثنيا أظهر تململا متكررا منذ تأسيس الدولة الوطنية الحديثة نهاية الحرب العالمية الأولى.

يقطن الشيعة عدة دول تضم أكثرية سُنية أو وجودا سُنيا قويا، من لبنان وسوريا والعراق إلى السعودية وبعض دول الخليج. ويشكل الأكراد أقليات قومية نشطة في العراق وسوريا وإيران وتركيا. العرب الشيعة، والسُنة من عدة قوميات، أقليات قابلة للانفجار في إيران؛ والعلويون كذلك في تركيا.

أما السوريون السُنة فيخضعون لسيطرة أقلية علوية على الحكم. ولا تقل قصة المسيحيين في دول مثل لبنان ومصر أهمية وإثارة. وقد ساعد الاحتلال الأميركي للعراق فعلا على تقويض النسيج الوطني العراقي، كما ساعد على الصعود السياسي الشيعي الطائفي والكردي القومي.

ولكن أهداف هذه التشظية لم تتحقق تماما. فقد أدت من ناحية إلى تعاظم المقاومة العراقية ذات القواعد العربية السُنية، ومن ناحية أخرى إلى تصاعد النفوذ الإيراني في العراق، بدلا من أن يشكل العراق الأميركي ضغطا على الحكم الإيراني.

ولمواجهة الآثار السلبية للمشروع الأميركي في العراق، لابد من إرضاء العرب السُنة في المنطقة وتعزيز قدرات المنطقة على مواجهة الخطر الإيراني. وقد وفر التورط السوري في لبنان فرصة نادرة لضرب عدة عصافير بحجر واحد.

إطاحة النظام الحاكم في دمشق وإعادة سوريا إلى أحضان السُنة سيرفع من مستويات التشظي الطائفي، وسيجعل سوريا منطقة استقبال للعراقيين العرب السُنة، وسيضع سوريا في موضع عداء دائم للحكم الشيعي في العراق ويساعد في حصار احتمالات توسع النفوذ الإيراني، وسينهي علاقة التحالف بين سوريا وحزب الله ويحجم نفوذ الأخير في شكل لا رجعة فيه، وسيفتح الباب لانحياز أكراد سوريا باتجاه الحكم الكردي شمال العراق، وسينقل الثقل العلوي إلى تركيا.

وفوق ذلك كله، سيكون عامل ترضية كبير للسُنة العرب في المشرق، ويساهم في إنهاء المقاومة العراقية. دولة شيعية في بغداد وأخرى سُنية في دمشق، تحافظ كل منهما، في شكل أو آخر، على علاقة وثيقة بالولايات المتحدة. هل ثمة من نصر إستراتيجي أكبر لمشروع غزو العراق، وبناء شرق أوسط جديد؟

قد لا يبدو هذا السيناريو واقعيا، ولكن أحدا يجب ألا يستبعد أي احتمال عن إدارة أميركية جعلت من الفوضى "البناءة" مرجعية سياسية لها في الشرق الأوسط. ولكن وجود مثل هذا السيناريو لا يعني أنه سيتحقق بالضرورة. ولتحقيقه لابد أن تتبناه قوى فاعلة على الأرض، وليس فقط نائب رئيس سابق يعيش في باريس ويصعب أن تأخذ سوريا مصداقيته مأخذ الجد.

الحقيقة أن السُنة العرب يعانون معاناة قاسية في العراق المحتل، تحيط بهم من جهة حكومة تسيطر على مقاليدها قوى طائفية، ومن جهة أخرى قوات احتلال أجنبي تخوض معركة خاسرة ضد المقاومة.

وهناك بلا شك قضية سُنية في سوريا، بعد أن تداخلت عوامل الطائفة والأسرة والسيطرة العسكرية الحزبية لتعزل الأكثرية السورية عن أغلب مواقع صنع القرار الهامة. ولكن أحدا لا يمكن أن يقبل بصفقة استبدال العراق بسوريا؛ ليس فقط لأن الدول لا يمكن أن تعامل مرة أخرى كأحجار على رقعة الشطرنج، وإنما أيضا لأنه لا العرب السُنة ولا حتى المقاومين العراقيين بصدد المساومة على بلادهم. ويجب أن لا يتصور أحد أن التدخل الخارجي يمكن على أي نحو من الأنحاء أن يتعهد إقرار العدل وإعادة الحق إلى نصابه. فالتدخل الخارجي في شؤون هذه المنطقة كلما وقع لم يترك خلفه إلا الدمار والخراب والفوضى.

في نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت القوة الدافعة في المنطقة هي وحدة البلاد والشعوب العربية. ولكن الإمبرياليات المسيطرة وجدت في تقسيم المشرق العربي تأمينا لمصالحها الإستراتيجية. وبعد قرن من الزمان، يطال التهديد كيان الدولة العربية القُطرية وجماعتها الوطنية.

وإن سمح العرب، لهذا السبب أو ذاك، بانهيار الدول الوطنية، فسيدخل المشرق العربي حقبة لا أول لها ولا آخر من الحروب الطائفية والعرقية والقبلية. وبعد أن كان البعض يبحث عن العدل سيصبح الهم الأكبر تجنب الموت. إصلاح الدولة الوطنية هو مطلب ملح وحيوي، ولكن هذا الإصلاح يجب أن يتم بإرادة الشعوب وقواها الوطنية، لا بمخططات وصفقات خارجية.
سيريا نيوز