آحو يوسف/السفير

ها نحن وصلنا أخيراً إلى محطة <<سوريا أولا>>.

لم يرتفع الشعار جهاراً بعد. لكن محصول 2005 العربي وأثره داخل سوريا تجاوز تخوماً طالما كانت محرمة.

في البدء جاءت السعودية أولاً (منذ رحيل الملك فيصل إثر استخدامه النفط سلاحاً) ثم <<مصر أولا>>، يوم حج السادات إلى أورشليم. ثم تتالت الكويت أولاً، وفلسطين أولاً (اتفاق أوسلو) حتى الأردن وليبيا ومن ثم العراق. عادة كان يتم تخوين هذا المنطق أو استهجانه على الأقل.

أما الآن، إثر الزلزلة السياسية في لبنان (التي لم تستكمل بعد كل بهائها الكارثي)، فإن راية <<لبنان أولا>>، التي ارتفعت لتدويل الطلاق السياسي بين بيروت ودمشق، جعلت ردة الفعل الدمشقية (سوريا أولاً) تبدو كأنها بديهية تماماً، رغم كل ما فيها من حنق واضطرارية.

ولم يلحظ التدوين السياسي في عجالة أمره أن الموضوع يتعلق بسوريا، صاحبة قصب السبق في المكابرة القومية وفي ازدواجية الشعورين الوطني والعروبي. إنها المحطة الأخيرة إذاً: قلب العروبة النابض يريد هو الآخر أن ينأى بنفسه.

لكن الحقيقة هي أن القوى المخاصمة للنظام ما برحت منذ سنوات تدندن لحن <<سوريا أولا>> حتى بلغت أوج صوتها في <<إعلان دمشق>>.

ثم أُعلنت الخطوط الأولية لرؤية الرئيس بشار الأسد حول سوريا الجديدة (سوريا أولاً، وإنْ بشكل مغاير) عبر خطابه في تشرين الثاني الذي جاء وثيقة تأسيس تستحق تسمية <<إعلان جامعة دمشق>>.

ومع عودة العلم السوري بكثافة إلى الفضاء السياسي اليومي، حيث <<سوريا الله حاميها>>، وحيث الوطنية هي أداة سياسية، سوف يكون صعباً جداً فصل الزؤان عن الحنطة في <<الوطنية السورية>> كمدرَك سياسي وكمفهوم عام لا بل وحتى كشعور آدمي، لا سيما أن الموضة السياسية الدارجة اليوم تجيز خفة اليد واللسان واتهام النظام بكل ما قد يشكل تهمة.

خصوم النظام يلجأون اليوم إلى <<سوريا أولا>> بسبب انهيار تجاربهم السياسية وحاجتهم لقطع <<الهواء الخارجي>> عن رئتي النظام، مستفيدين من زوابع بيروت، وبسبب فشلهم داخلياً في تقويض شرعيته التي طالما كان <<البعد القومي>> و<<الصمود>> في المواجهة الإقليمية أهم منابعها.

أما النخبة الحاكمة وشركاؤها فيرون في <<التضامن الوطني>> ونداء <<الوطن في خطر>> مظلة ملائمة، ليس فقط لمواجهة الضغط الخارجي، بل لإنتاج فكرة سورية تعبر عن مشروع هذه النخبة التي تعيش محنة إعادة إنتاج ذاتها، عبر خلق واقع سياسي مختلف داخلياً وبناء شرعية متجددة يحتاجها النظام في سوريا المستقبل.

تاريخياً، اعتبر الوجدان الوطني السوري نفسه على الدوام فائضاً عن حاجة ومقدرة الجسد السياسي الذي حُشِر داخله، حيث الوطنية السورية، أياً كان فحواها، لم تروِ غليلاً سياسياً للحركات والأحزاب. كان ذلك رفضاً مقدَّساً لمعادلة سايكس بيكو الحسابية (سوريا  سوريا الطبيعية ناقص فلسطين ولواء اسكندرون وسنجق الموصل وسنجق ديار بكر ولبنان الصغير ثم الكبير، زائد أجزاء من البادية حول دير الزور).

لقد كوّن إقليما دمشق وحلب وبادية دير الزور وسهول الجزيرة (بسكانها السنّة وأقلياتها، أكراداً وسرياناً وأرمن) وكذلك جبلا الدروز والعلويين تركيبة جديدة راحت تتعلم ترجمة هوياتها المحلية، العرقية والدينية والطائفية والعشائرية، إلى شعور وطني سوري، ليس سوى جسر مؤقت يتيح العبور نحو الشعور بما هو أجلّ وأعظم (<<بلاد العرب أوطاني>> في حالة القوميين العرب، الأمة الإسلامية في حالة الإخوان المسلمين، الأممية التقدمية الاشتراكية في حالة الشيوعيين، كردستان الكبرى في الحالة الكردية).

فمنذ الرحيل الفرنسي وبدايات الناصرية (مروراً بقناة السويس 1956 وبيروت 1958 وانطلاقة المقاومة الفلسطينية، إلخ) حتى حزيران 1967، كان الشعور الوطني السوري يطلب <<المزيد>> عبر قضايا العرب الكبرى (الوحدة العربية، محاربة الأحلاف، تحرير فلسطين، ثم تحرير الأراضي المحتلة و<<إزالة آثار العدوان>>).

على الدوام كانت شرعية النظام في دمشق تتطلب، إذاً، براهين خارجية عبر إكسسوار قومي ودور عربي معتبَر.

ضمن ذلك الخليط من عدم الاعتراف بالذات السورية الفعلية والاعتداد برسالة مقدسة تحملها تلك الذات، كانت مفاهيم كالأمن الوطني والوحدة الوطنية أسيرة التناقض الازدواجي ذاته. فكانت التحالفات الدولية (مع موسكو) أو الأقليمية والولاءات للعرب <<التقدميين>> والكره الثوري للأنظمة <<الرجعية>>، تنطلق، ليس من مصلحة الداخل السوري أولاً، بل من الوفاء لترسيمة الإيديولوجيا القومية، وفي أفضل الحالات من الطموح نحو <<المزيد من سوريا>> في الساحة العربية.

وما كانت المناعة الداخلية، على شكل وحدة وطنية مثلاً، تدخل ضمن أولويات الأمن الوطني في ذهنية النخب الحاكمة. على العكس، كان يبدو بديهياً أن طوائف السوريين وقومياتهم وعشائرهم تتعايش متزاحمة ضمن صيغة منقحة من النظام الموروث عن الدولة العصملية، <<تنظيمات ملّي>>، حيث الملل مستقلة محلياً ومعنوياً وتتنافس على الإمساك بمقود الدولة. لذا شهدت دمشق رقماً قياسياً من الانقلابات الحكومية والتصفيات، حتى استقر الأمر منذ أوائل السبعينيات للحقبة الأسدية.

شكلت حرب تشرين 1973 لحظة مفصلية في التاريخ السوري الحديث ككل وفي تاريخ الوطنية السورية وكذلك في صيرورة دولة سوريا وفي زيادة حجمها العربي والإقليمي، على التوازي مع إعادة تركيب البنى السياسية الداخلية.

ففي متوالية الحكومات الانقلابية (منذ أن قطعت الوحدة المصرية السورية آليات التداول الديموقراطي للسلطة في دمشق) كان حكم الرئيس حافظ الأسد أول من يكسب شرعية داخلية، لكن عبر منجزات تشرين 1973، أي عبر<<الضرورة الوطنية والقومية>> قبل صندوق التصويت.

بدأت الحقبة الأسدية من تشديد المركزية في إدارة الدولة وإقامة شمولية وطيدة عبر إلغاء النظام المِلّي الأفقي واستبداله بنظام مِلّي شاقولي، يقوم على ولاءات جماعية ويلغي المنافسة على مقود الدولة ويحدد حصص الملل والطوائف في فطيرة السلطة المركزية على أساس معادلات معقدة. هنا يكمن حقيقةً أهم المنابع الموضوعية لتمرد الاخوان المسلمين الدموي، أما العامل الطائفي، وما كان جديداً، فكان تحصيل حاصل.

وفرت الحرب الأهلية <<ضد الإرهاب>> آنئذٍ مزيداً من الشرعية للنظام وأنتجت انزياحات كبيرة في معاني الوطنية والوحدة الوطنية والأمن الوطني، حيث تسيست كلها وحصرت في شاشة <<أبيض أسود>>: مع النظام أو ضده. هنا تعمق التباين في فهم الوطنية بين الحكم وخصومه، ناهيك عن وطنية الناس العاديين.

وتعرضت دمشق أثناءها إلى تآلبات <<الأشقاء العرب>>، بعد خيانة السادات لها. لكن حرب اللبنانيين والفلسطينيين الأهلية في لبنان جاءت بفرصة ذهبية لحصول دمشق على دورها <<الفائض>> خارجياً و<<اللعب مع الكبار>> مباشرة دون الاكتراث لمكائد الأشقاء.

هكذا بدأ الانكفاء الصامت في الوطنية السورية وفي إيديولوجيا النظام، لكن ضمن حدود معنوية هي سوريا الطبيعية، حيث استعيض عن الدوكترين البعثي الرسمي بتصورات القوميين السوريين التقليدية.

كان ذلك ملائماً تماماً لروح حقبة مختلفة عنوانها <<لا حرب ولا سلم>>، وميسمها الامتداد الاستراتيجي عبر لبنان وفشل محاولات التوحد مع الشقيق البعثي اللدود في النصف الآخر من بلاد الرافدين، والتحالف المديد مع إيران.

أما الآن، بعد الانهيار البيروتي، حين المسألة الوطنية تجول في الشوارع السياسية بدمشق، يبدو النظام أكثر تهيؤاً لمهمته من خصومه المعارضين الذين لا تبدو صورة سوريا المستقبل في خطابهم أكثر من مخطط مدرسي لديموقراطية نموذجية، مزوّقة برتوش تلزم للتواؤم مع الحاجات الدعائية في خطاب الإخوان المسلمين.

ودون الركض خلف تراكيب نظرية معقدة يمكن القول ان الوطنية السورية الحقة تقوم اليوم على مشاعر الارتباط بِ والدفاع عن والإخلاص للأجيال السورية والأرض السورية التي اجتازت كل هذا التاريخ المتشابك على مدى 90 سنة (20051925) وأنتجت ثقافة وطن ونجاحات وطن ومآسي وطن. ذلك هو التراث الوطني السوري.

لكن الوطنية الحقة اليوم، التي لا تكون حكراً على أو أداة في يد المتناحرات السياسية، هي حتماً بنت المجتمع المدني، الذي لا يأتي ملكوته عبر <<لجان إحيائه>> المسيس ولا يتقدس اسمه عبر صراع مجتمعي انقلابي.

فالسؤال المركزي حول الوحدة الوطنية السورية هو: هل يحصل التغيير في سوريا عبر مرحلة إصلاح مجتمعي مديد، وفق مكنون الحاجات السورية الفعلية، أم وفق إرادة وإملاء خارجيَّيْن، ضمن أجندة ثورية مصوغة في واشنطن؟

سؤال يواجه النظام وخصومه على حد سواء، كما انه يفسر استعجال واشنطن المحموم لفرض مسار تغيير على دمشق قبل نضوج أي مشروع داخلي، بإرادة النظام أو بتفاهمه مع شركاء محتملين.

إن تجنب السيناريو العراقي، الآيل إلى تمزق الوطنية العراقية، يمر قطعاً عبر مصالحة وطنية سورية، يكون النظام القائم هو الفاعل الأساسي فيها، متشاركاً مع كل قوة لا تستوطئ حائطه أو تناور بانتظار إضعافه وتفكيكه. ذلك لأن موارد ومقومات التغيير المجتمعي مادياً وسياسياً وإدارياً هي لدى السلطة، بينما حوافز التغيير الفكرية والمعنوية خارج النظام، لدى حلفائه غير الموالين وخصومه المعتدلين، بأقوى مما هي داخله.

إن المساءلة حول الوطنية السورية تأتي في لحظة حرجة: هل نعود، بنتيجة انفجار اجتماعي ناجم عن عوامل خارجية وداخلية، إلى سديم الوطنيات الجزئية المرتهنة بالطوائف والأقليات والعشائر، محاكاةً للشقيق اللبناني أو تكراراً لمأساة الشقيق العراقي، أم سيقيض لسوريا تجاوز الفصام التاريخي في وجدانها الوطني عبر التفاهم على المسائل السورية الكبرى؟

وتلك، لعمري، مسائل ثلاث: المسألة الطائفية ومسألة الأقليات والمسألة <<الطبقية>> (إعادة توزيع الثروات وتحرير الدولة من الفساد). تلكم هي عناوين النقاش، برأيي.