الرأي العام

في غمرة التعليقات المتشنجة وردود الأفعال المتفاوتة في الجانبين السوري واللبناني على اثر الضجة الاعلامية التي أثارتها التصريحات المثيرة التي أدلى بها نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام لقناة «العربية» الفضائية عشية الاحتفال بالسنة الجديدة، جاء التعليق الأكثر توازنا والأكثر واقعية من زعيم التيار الوطني الحر في لبنان العماد ميشال عون في تصريحه الذي أدلى به لصحيفة «السفير» اللبنانية (2/1/2006)، والذي ذكر فيه «نحن نعلق على ما يعنينا، وأما ما يخص سورية فهو شأن داخلي لا علاقة لنا به», وأضاف عون «كنا نتمنى أن تستفيق ذاكرته بما يخص المرحلة كلها التي كان فيها خدام مسؤولا في سورية عن الملف اللبناني، وأن يتذكر كل ما خص عمليات الاغتيالات التي طالت المفتي حسن خالد وناظم القادري ورينيه معوض وبشير الجميل وكمال جنبلاط,,, وأنا لا أعرف ما الذي سوف يضيفه كلام خدام عن جريمة اغتيال الحريري، لأنه لا يحمل جديدا», بهذا التصريح «الهادئ» للعماد عون نجده ابتعد عن المهاترات وبورصة المزايدات الكلامية التي طغت على الساحة السياسية في لبنان وسورية خلال الأيام الماضية وآثر على نفسه عدم الانضمام الى جوقة «الردح» السياسية في لبنان (الغالبية النيابية) وفي وسورية (مجلس الشعب السوري الذي اكتشف فجأة فساد خدام بعد أن ظل يصفق له طيلة الاعوام السابقة).

من جانب آخر، فان المرء ليعجب حقيقة للموقف الذي اتخذه السيد عبد الحليم خدام، خصوصا فيما يتعلق بالشأن السوري الداخلي، ومصدر الغرابة ليس في الحديث الذي أدلى به خدام لقناة العربية بل لكونه صدر من شخص خدام نفسه! فقد قضى خدام قرابة اربعين عاما في مركز القرار السوري، اذ كان الساعد الأيمن وأقرب المقربين للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وبذلك لا يستطيع أحد أن يتجاهل الدور الكبير الذي قام به خلال مدة خدمته الطويلة والتي كانت لها بالطبع انعكاساتها على الداخل السوري, والسؤال هنا: هل يحق لمن شارك وساهم في الحكم بشكل مباشر طيلة العقود الأربعة الماضية بأن يتحول «فجأة» الى ناقد وساخط ومعارض لتلك الحقبة التي كان شريكا أساسيا في منظومتها؟ فعلى سبيل المثال، تطرق خدام في معرض حديثه المتلفز الى قضية الفساد المستشرية في السلطة السورية والى قضايا الحريات والفقر، وهي قضايا قد لا يختلف معه الكثيرون، ولكن يا ترى ألا يتحمل السيد خدام النصيب الأكبر في تردي أوضاع الداخل السوري نتيجة للسياسة التي كان يتبعها طيلة العقود الماضية؟ ألم تكن حال الفقر التي أشار اليها خدام هي نتاج السياسة «الاستراتيجية» التي كان أحد أهم مخططيها ومنفذيها؟ أليست ظاهرة استشراء الفساد التي تحدث عنها خدام هي نتيجة لتراكمات سابقة استمرت طيلة أربعة عقود كان خدام العنصر الأبرز في السلطة السورية؟

من الواضح أن تصريحات السيد عبد الحليم خدام رغم أهميتها ودلالاتها كونها صادرة من شخصية مثل خدام على اعتبار انه «الشاهد الملك» -على ما يبدو- الذي ستستند اليه لجنة التحقيق الدولية في المرحلة المقبلة، الا انه من المهم أيضا وضع تلك التصريحات في سياقها الصحيح وهي أن المسألة تندرج أيضا ضمن باب «تصفية الحسابات الشخصية» بين خدام والسلطة السورية! ولم يعد خافيا على احد أن خدام بات بعيدا في الاعوام الأخيرة عن مركز صنع القرار السوري، وتحديدا منذ تولي الرئيس بشار الأسد لشؤون الحكم، وهو ما أشارت اليه مراسلة صحيفة «يديعوت احرونوت» سمدار بيري بقولها ان «تصريحات خدام كانت تتويجا لحملة انتقام شخصية بسبب اقصائه عن مركز السلطة في سورية» (1/1/2006).

نعم قد تكون بعض المعلومات التي أوردها خدام في تصريحه الأخير صحيحة وواقعية، الا أن شهادته تبقى مجروحة ولا مصداقية لها، أولا لأنه التزم الصمت طيلة الفترة السابقة التي لم يسمع فيها احد يوما انه وجه أي انتقاد للسلطة التي كان أحد أعمدتها أو تحدث عن وجود فساد مستشر! الأمر الثاني لأنه تحلل من التزاماته ومسؤولياته كلها، السابقة وقام بتحميل الآخرين أخطاءه وذنوبه كلها طيلة العقود الأربعة السابقة! من هنا يجب الأخذ بعين الاعتبار دلالة الزمان والمكان (فرنسا) في حديث خدام لقناة «العربية», ورغم ادراك خدام جيدا لحجم الضغوط التي تمارس في هذا التوقيت على سورية من قبل العديد من الدول الغربية وتحديدا من قبل الولايات المتحدة، نجده ــ على ما يبدو ـ استند في معطيات «الانقلاب الأبيض» الى فرضية قديمة يبدو أنها عادت لتطفو على السطح من جديد وهي فكرة تغيير النظام السوري الحالي واستبداله بنظام آخر لا يخرج عن المعادلة القائمة في دمشق والمحيط الاقليمي التابع لها, فخدام يدرك جيدا على ما يبدو أن المعضلة الأساسية التي قد تقف أمام تنفيذ هذه الفكرة (الأميركية) هي عدم وجود بديل مناسب للنظام الحالي يتحلى بالمواصفات المطلوبة! من هنا، نجد أن خدام قد ضمن حديثه المتلفز رسائل مبطنة لواشنطن مفادها أنه في حال عقدت واشنطن النية على تنفيذ انقلاب يطيح بالنظام السوري الحالي، فانه (أي خدام) سيكون البديل «الناجح»!

الآن بعيدا عن الدوافع الحقيقية التي أدت الى انقلاب عبد الحليم خدام سواء أكانت انتقاما من النظام السوري أو تمهيدا لطرح نفسه كبديل «ناجح»! وبعيدا أيضا عن مدى صحة المعلومات التي أوردتها صحيفة «يديعوت احرونوت» ودلالاتها ، من أن «البيت الضخم الذي يقطنه خدام في احدى ضواحي باريس كان خلال الأشهر الأخيرة مركزا للقاءات السرية لعملاء أجهزة المخابرات العربية والغربية والاسرائيلية»! فانه تبقى مسألة مهمة في هذا السياق، وهي أن تصريحات خدام لقناة «العربية» ستساهم بلا شك في زيادة حدة الضغوط الغربية على سورية، ولذلك فانه من المهم جدا كما ذكرنا في مقالات سابقة أن تسارع السلطة السورية بالانفتاح على جميع القوى السياسية في الداخل والخارج من أجل تحصين وتمتين الجبهة الداخلية تحسبا، لأي تطور درامي قد يشهده الملف السوري في المرحلة المقبلة التي تبدو أنها حبلى بالمفاجآت,

أما اعترافات خدام فان ابلغ توصيف لها هو ما ذكره الكاتب الصحافي شاكر النابلسي قبل أيام، عندما ذكر «بأن اعترافات خدام هي بمثابة اعترافات من مارست البغاء السياسي طوال عمرها ولما أصبحت عجوزا شمطاء تابت الى رب العالمين على ما يبدو، واعترفت بكل من كانوا يمارسون معها البغاء السياسي»!