نزار عبد القادر/الديار

خرجت العلاقات السياسية بين لبنان وسوريا بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عن كل الاطر ‏التي يفترض ان ترعى العلاقات بين دولتين شقيقتين، بينهما من الروابط ما لم يتوافر وجوده بين ‏الدول العربية الاخرى. خرجت العلاقات بين البلدين خلال عقد ونصف، اعتبارا من بداية ‏جمهورية الطائف.‏

لقد بلغت التعقيدات السياسية بين سوريا ولبنان مستوى لم يسبق ان بلغته في اي مرحلة ‏سابقة، اي منذ الاستقلال وحتى شباط الماضي. نحن نتخبط الان في حالة من الفوضى وعدم ‏الاستقرار السياسي والامني، وهي حالة غير مبررة خصوصا وانها لا يمكن ان تستغل لصالح اي من ‏الدولتين او الشعبين، بل على عكس ذلك فهي تخدم مصالح بعض اللاعبين الدوليين كالولايات ‏المتحدة وفرنسا واسرائيل.‏

ان الاحداث والتطورات السياسية التي تشهدها اليوم، والتي تركزت على الضغوط المتبادلة ‏جراء مسار التحقيق الدولي تدفع صناع القرار في كل من سوريا ولبنان للعمل في اجواء يخيم ‏عليها الشك والغموض، في وقت يتحرك كل شيء من حولهم بسرعة متناهية تفقدهم القدرة على ‏رؤية الترابط بين الاحداث بغض النظر عن الجوار الجغرافي، والذي يحوّل سوريا ولبنان الى مسرح ‏واحد للعمليات : اذا تحركت احدى دينامياته فلا بدّ من التحوّط لما يمكن ان تكون ردود فعل ‏الديناميات الاخرى.‏

ان القضية التي تحتل نقطة المركز في مسرح العمليات الموحد هي التحقيق الدولي وما يستتبع ‏ذلك من ضغوط خارجية يتعرض لها كل من سوريا ولبنان، والتي تدفع بكل منهما للتحرك في شكل ‏متعارض مع حركة الاخر.‏

لبنان يريد «الحقيقة» حول جريمة اغتيال الرئيس الحريري، وتستغل رغبة اللبنانيين لمعرفة ‏الحقيقة من قبل القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة من اجل اضعاف النظام ‏السوري، تمهيدا للايقاع به واسقاطه، هذا هو ظاهر الامور على الاقل. في المقابل تسعى سوريا ‏لانكار اية مسؤولية او تهمة تؤشر الى ضلوعها المباشر او غير المباشر في جريمة الاغتيال.‏

وتواجه سوريا حالة «ضياع الحيل» في مواجهة الضغوط التي تتعرض لها من خلال اللجوء الى ‏سياسة الهروب الى الامام وتفجير كامل غضبها على لبنان واللبنانيين سواء من خلال ما تملك من ‏فائض القوة الامنية او من خلال فائض النفوذ الذي ما زالت تمسك به عبر حلفائها داخل ‏لبنان.‏

نحن نواجه في كل من سوريا ولبنان وضعاً في غاية التعقيد، وهو وضع متغير لا نكاد نتعرف على ‏دينامياته حتى تتغير خلال ساعات، سواء امنيا على الارض او من خلال الضغوط الدولية ‏القادمة من واشنطن او باريس او مجلس الامن.‏

لقد بلغت الامور حداً من التعقيد والغموض والفوضى بحيث انه بات من المتعذر وضع خطة ‏لمعالجة الازمات المرتبطة بالتحقيق الدولي بوجهيها السياسي والامني.‏

في الواقع، تبدو آفاق الرؤية السياسية مسدودة امام المسؤول السوري، بحيث انه لم يعد ‏بامكانه اجراء تقويم موضوعي للوضع السياسي الذي يواجهه على المستويين الدولي والاقليمي، ‏فاقتصرت خياراته على مواجهة التقلبات الدراماتيكية باعتماد مجموعة من ردود الفعل، ‏والتي اتسمت في معظم الاحيان بالارتجال، وسوء تقدير للنتائج والمخاطر. وكانت ابرز ظواهر ‏سياسة الارتجال المكابرة التي لجأ لها المسؤولون السوريون في مواجهتهم لمندرجات القرار الدولي ‏‏1559 وفي تعاملهم مع لجنة التحقيق الدولية وبنود القرارين الدوليين 1595 و 1636.‏

لم يكن الوضع بالنسبة الى المسؤول اللبناني بأفضل مما هو متاح للمسؤول السوري، وتتمثل ‏المعضلة الاساسية في انه لم يعد من الممكن الفصل ما بين مسار العلاقات مع سوريا ومسار ‏التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، وذلك على ضوء ما توصل اليه المحققون من ‏استنتاجات. ويمكن من خلال هذه المعضلة ادراك اسباب التدهور المتواصل لمسار العلاقات بين ‏البلدين، بعدما كان الرئيس السنيورة قد ابدى نوايا حسنة للشروع في تحسينها من خلال ‏البحث في ارسائها على على قواعد جديدة اكثر توازنا من سابقاتها. ومما يزيد في التعقيدات ‏من الجانب اللبناني حاجة لبنان للتعويض عن اوضاعه السياسية والامنية الهشة بالخضوع ‏للطروحات السياسية التي تقودها الولايات المتحدة تجاه المنطقة والتي تستهدف في جزء منها ‏الدور السوري الاقليمي، كضمانة لاستمرار التحقيق الدولي من جهة، وكدرع واقية من الضغوط ‏السياسية والامنية التي تمارسها سوريا عليها، لاسباب عدة، ابرزها الاحتفاظ بنفوذها في ‏لبنان، والابقاء على سلاح حزب الله كورقة اساسية يمكنها استعمالها في سياسة السلام والحرب، ‏بعدما فقدت كل الاوراق الاخرى.‏

جاءت المعلومات التي ادلى بها نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام في مقابلته مع قناة ‏‏«العربية» لتزيد من مظاهر التعقيد في العلاقات السورية - اللبنانية، وتدفع بالازمة ‏الراهنة نحو مرحلة جديدة تضفي على الوضع المزيد من الضبابية والخطورة ولتدفع باتجاه ‏انتكاسات امنية وسياسية مكلفة جدا لكل من سوريا ولبنان على حد سواء.‏

بعد الاتهامات التي وجهها خدام للنظام وللرئيس الاسد شخصيا، والتي ستتسبب بتداعيات كبيرة ‏وخصوصا لجهة توسيع التحقيق الدولي واستدعاء الرئيس الاسد والوزير الشرع للاستماع اليهما ‏من قبل لجنة التحقيق، لم يعد بالامكان اجراء تقويم موضوعي للاستراتيجية التي يمكن ان تتبعها ‏سوريا تجاه لبنان سواء على المستوى السياسي او الامني. هناك مجموعة اسئلة ملحة تفرض ‏نفسها الان :‏

هل يمكن ان يستمر لبنان في تحمل الضغوط السياسية والامنية التي تمارسها سوريا عليه؟ وهل ‏يملك لبنان خطة لمواجهة امكان استفحال مخطط التهديد الامني؟ هل يمكن ان يستمر لبنان في ‏تأمين الغطاء للضغوط الاميركية ضد سوريا؟ ما هو خطر هذه اللعبة على استقراره الداخلي؟

ما هي امكانية البحث عن حل لوقف التدهور المتسارع في علاقات سوريا بلبنان ضمن الاطار ‏العربي وبرعاية سعودية - مصرية؟

لم يعد من الجائز الاستمرار في تطبيق هذه الاستراتيجيات التجريبية - القائمة على الفعل ‏ورد الفعل من قبل سوريا ولبنان، حيث تتسبب في مجمل الاحيان بمزيد من التعقيدات وبتسعير ‏المواجهات الجارية بين الجانبين.‏

لا يمكن توقع بناء استراتيجيات متماسكة في ظل الحرج وانسداد الافق السياسي الذي يواجهه كل ‏من سوريا ولبنان، فقد غابت في ظل حالة الفوضى الراهنة كل المقاييس والآليات السياسية ‏والديبلوماسية اللازمة لحل او ادارة الصراع القائم بينهما، خصوصا انه قد تجاوز الانظمة ‏ليبلغ الاعلام والشارع وبشكل محموم يهدد الاستقرار الداخلي والعربي.‏

كل هذه الظروف والاجواء المهيمنة على العلاقات السورية - اللبنانية تنذر بانزلاق المنطقة ‏نحو حالة عامة من الفوضى «غير البناءة»، مما يستدعي ان تتحرك كل من السعودية ومصر في ‏جهد مشترك، لاعادة تصحيح مسار العلاقات بين دمشق وبيروت.‏

ويبقى السؤال : هل تنجح زيارة مبارك للسعودية في فتح كوة في هذا الحائط المسدود؟