تعود بنا أزمة شارون الصحية التي ستبعده على الأغلب عن الحياة السياسية، إن لم تقض عليه، إلى البناء السياسي الذي رسمه "المستوطنون" داخل فلسطين رغم العمر القصير لهذه التجربة، لكنها كانت بالفعل سابقة تاريخية، لأن هؤلاء المستوطنين الذين بدؤوا في مستوطنة "بتاح تكفا" بتمويل من "روتشيلد"، استطاعوا حتى الآن هزيمة التاريخ وما يقدمه من نماذج بشرية، او صور لمجتمعات متقلبة ما بين الماضي وحقيقة مواجهة الحاضر.

والتجربة الخاصة للدولة العبرية عاصرها شارون، وانتهى كرئيس وزراء لـ"إسرائيل" يدهش الجميع بطموحه المستمر على قلب الخارطة السياسية حتى على حزبه الذي انطلق منه. ورغم أزمات شارون السابقة، على الأخص بعد اجتياح لبنان عام 1982، لكنه لم يذهب إلى أي دولة ليكتب مذكراته .. وهو لا يقدم عبر هذه الصورة نموذجا بل استكمالا لطبيعة الهزيمة السياسية التي يواجهها أصحاب الفكر الماضوي. فلا أحد يختلف على الطابع العنيف الذي ميز تاريخ شارون، لكن هذا العنف كان يستقر في عمق فكرة الاستيطان التي خلفتها "إسرائيل" داخل الشرق الأوسط عموما. لأن حركة الهجرة من الشتات والمستمرة حتى اليوم تجاوزت أسلوب مداعبة "الخيال" الديني لليهود، وشكلت آلية الخلاص بإنهاء مفهوم "الغيتو" والعمل على تأسيس ما هو جديد.

وبالطبع فـ"إسرائيل" العدو شكلت مواجهة نوعية بالنسبة لمجتمعنا، و "شارون" العدو هو أيضا تكوين نوعي في صياغة العداء عبر قدرته على الاستفزاز في اللحظة المناسبة، سواء عند دخوله الحرم القدسي، أو في احتلال لبنان ومجازر صبرا وشاتيلا، أو حتى في خرق الدفرسوار عام 1973. وهو أبرز استفزازه الأخير في مواجهة التصلب السياسي عندما أسس حزبه الجديد وهو في عمر 77 عاما، دون أن يشعر بأن تراث الليكود يمكن أن يحد من فهمه لمصلحة "إسرائيل".

والمسألة ليست دروسا مستقاة من تاريخ شارون بل مفارقة لعمليات تأسيس الفكرة التي برزت عبر "المستوطن" مقارنة لتأسيس "الوطني" التي ظهرت في مجتمعاتنا الأصيلة منذ عهد الصراع ضد الانتداب، فإذا كانت فكرة "المستوطن" بُنيت على الخروج من مألوف الضحية الاعتيادية التي واكبت اليهود، لتصبح دخولا في كتابة تاريخ جديد، فإن الوطنية كانت تتقلب داخل مجتمعاتنا عبر حروب الشك والتخوين وصولا إلى أدوار "الأستذة" و "النخب"، واستلاب المستقبل بحجة التاريخ.

سيبقى القادمون إلى فلسطين "مستوطنون" مهما سار التاريخ وبرهن على انهم قادرون على امتلاك المبادرة، لأنهم بهذا التأسيس الذي يقدمونه يسيرون بشكل غير مسبوق نحو مجارات العنف والتناقض داخل منطقة لا تعيش إلا بالتنوع. ولكن هذا الاستمرار سيدخلنا في دوائر العنف بشكل مستمر إذا لم نستطع تأسيس "الوطني" من جديد ... تأسيس المستقبل كما نريده بجرأة وخيال لمواجهة "المستوطن".