ضيا اسكندر

فور خروجي من المكتبة وبينما كنت أتصفح الجريدة التي اشتريتها لتوّي, وإذ بصبية حسناء تتجه نحوي باسمةً تحمل بيدها ميكرفوناً, يلاحقها شاب يقوم بالتصوير بواسطة كاميرا تلفزيونية وإلى جانبها جمهرة من المواطنين وباغتتني بسؤالها:

- ما تعليقك على الحديث الذي أدلى به عبد الحليم خدّام إلى قناة العربية؟

نظرتُ إليها بارتباك في بادئ الأمر, فهذه أول مرة في حياتي أتعرّض لمقابلة صحفية مرئية, طويتُ الجريدة وعدّلتُ وضعية النظارة على عينيّ وأنا أفكر بالإجابة وقلت لها:

- الحقيقة إن ما أثار اشمئزازي وغضبي هو ردود الأفعال التي سمعتها من قبل أعضاء مجلس الشعب في جلسته الأخيرة..! إذ هل يعقل ألا يتجرّأ أحدٌ منهم ويتطرّق إلى فساد هذا الرجل إلا بعد أن أدلى بحديثه إلى (العربية)؟!!

- يا أخي نسألك عن رأيك بحديث خدّام لا عن رأيك بأعضاء مجلس الشعب..!

- يا عزيزتي لا شك أنك سمعتِ آراء الكثيرين عن سؤالك هذا, وأرجو أن تسمحي لي بالإفصاح عن شجوني التي تكاد تمزقني من جرّاء تداعيات هذه القنبلة التي فجّرها (الرفيق المناضل!).. أليس من المعيب أن ننتظر أربعين عاماً على نبش ماضي هذا المسؤول؟ خاصة أن الجميع يعرفونه فاسداً منذ سنين طويلة, فلماذا التكتم على كل موبقاته طوال هذه المدة؟ تُرى.. لو كانت لدينا ديموقراطية حقيقية وأحزاب تمثل مصالح الشعب فعلاً ووسائل إعلام حرة.. هل كان بقي هذا (الاشتراكي بامتياز!) في مناصبه يرتع بالفساد جهاراً نهاراً؟

- يعني ألا تعتبر حديث خدّام إلى (العربية) يشكل إساءة كبيرة لسوريا تصل إلى مرتبة الخيانة العظمى؟ ما رأيك؟
- رأيي به ليس جديداً, لكن الجديد هو قدرتي على وصف هذا (الرمز الديموقراطي!) بما أشتهي من أوصاف شنيعة دون خوف, كما حصل مع أعضاء مجلس الشعب (المقتدرين!) فجأة وبقدرة قادر, والذين أجزم أنهم لولا الأوامر والإيعازات التي وصلتهم من فوق.. لما تجرّأ أيّ منهم على التفوه بكلمة واحدة ضده! الحقيقة إنني ومذ شاهدت حديث خدّام أمس وأنا أتساءل: وماذا بشأن أشباه (خدّام) الكثر الذين عاثوا ومازالوا يعيثون فساداً في هذا الوطن المنكوب بهم؟

- ما رأيك بجريمة دفن النفايات النووية في صحراء البادية, تلك التي قام بها أبناؤه؟ ألا تعدّ جريمة بشعة في حق الإنسانية؟ وخاصة أنها ذات تأثير خطير على الإنسان والحيوان والنبات..؟

- برأيي إن التستر على هذه الجريمة من قبل العارفين بها لا يقلّ بشاعة عن مقترفيها.. ومن المؤسف أن كل أعضاء مجلس الشعب وكل الفروع الأمنية وكل أحزاب الجبهة وكل المنظمات المسمّاة شعبية يعرفون البير وغطاه... ومع ذلك كانوا صامتين صمت القبور حيال هذه الجريمة النكراء, وحيال غيرها من الجرائم الكبرى التي ارتكبت, والتي يشيب لهولها الغلمان..

-(متبرّمةً) طيب, هل لاحظت مقتنيات القصر الباريسي الفخم الذي أجريت فيه المقابلة التلفزيونية مع خدّام؟

- ما أتمناه يا عزيزتي أن تصادر جميع القصور التي بُنيتْ في هذا الوطن نتيجة النهب والسلب والاحتيال والسلبطة.. ما أتمناه أن تسترجع أموال الشعب المسروقة سواء تلك الموجودة خارج الوطن أم داخله.. ما أتمناه أن يسمح لشرفاء هذا الوطن بتبوّء المواقع القيادية فيه.. ما أتمناه أن نتمكن من فضح كل الفاسدين ومهما علت مراتبهم من خلال إعلام حرّ ونزيه.. ما أتمناه أن يتم إلقاء القبض على كل من مدّ يده إلى المال العام, ومحاكمته على شاشات التلفزيون وببث حي ومباشر.. ما أتمناه أن يلزم باقي المسؤولين بالتصريح عن ممتلكاتهم بمنتهى الشفافية التي صرّح بها الرئيس الإيراني إلى الشعب.. ما أتمناه أن تعرض أقوالي هذه دون حذف أو مونتاج من قبل الرقابة..

ابتسمت المذيعة ونقرتني بالميكرفون على أرنبة أنفي مازحةً وقالت:

- يبدو أنك جريء زيادة عن اللزوم, ولهذا لن أعدك بعرض ما تحدّثت به على التلفزيون.. على كل حال يعطيك العافية..
وهنا تقدّم صوبي المصور مبتسماً وشدّ على يدي مصافحاً بحرارة, وغمزني بعينه موافقاً على كل كلمة قلتها, وودّعني بأن كوّر قبضته ورفع إبهامه محيياً وانصرفا...