النهار/ إدمون صعب

"إن للبنان الحق في أن يستعيد كل مقوماته ليكون بلداً حراً، سيداً، مستقلاً، يهتم بشؤونه الخاصة، ويكون ثمة تنسيق بينه وبين سوريا على الاخص، وهذه مصلحة مشتركة بينهما".

مار نصرالله بطرس صفير

بطريرك انطاكية وسائر المشرق للموارنة

كثيرون فرحوا بما قاله نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام في تصرفات اركان في نظام دمشق مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وخصوصا سوء المعاملة والتهديدات والشتائم التي كانت توجّه اليه... وهو صامد في رئاسة الحكومة، وكأن ما كان يصيبه هو في الواقع "ثمن" الكرسي، ولا بد ان "يستحقه" كل من طلب الجلوس عليه.

وما يقال عن "الرئيس الشهيد" يكاد ينطبق على "الرئيس العنيد" المتمترس في بعبدا رغم ما وجّه اليه من كلام أقرب ما يكون إلى الشتم والاهانة والتحقير... وهو صامد كذلك في كرسيه، معتبرا ان لكل شيء ثمنا، ليس للجلوس على الكرسي فحسب، بل كذلك لاضطهاد من كان يجلس على الكرسي الآخر والتحريض عليه، كما ورد على لسان خدام، لدى من كان في يده مفتاح الحياة والموت في دمشق.

واذا كان من حق الذين استغربوا صمود الرئيس رفيق الحريري في وجه "الارهاب" الذي كان يتعرض له، وهو لا يعترض ولا يستقيل، بل يبلع الفيلة كما اسرّ الى بعض القريبين منه منتظرا الفرج. فان من حق الذين فوجئوا بنائب الرئيس السوري يخرج عن الخط ويقرر الانسلاخ عن النظام، ان يتساءلوا: ماذا كان خدام يفعل طوال الفترة التي حكمت فيها سوريا لبنان وعلى يده في احيان كثيرة، غير بيع الكراسي والمواقع لطالبيها وبالاثمان المقررة من الباب العالي، في شراكة عزّ نظيرها بين حفنة من المتنفذين في البلدين، كان نتيجتها افقار لبنان وسوريا معا.

الا يرزح لبنان حاليا تحت عبء دين خارجي يكاد يتجاوز ثلاثة اضعاف دخله القومي وهو الذي كانت ليرته بقوة الدولار في السبعينات بينما السورية "على الارض"؟ فيما خدام يشير الآن، رغم "طيران" الليرة السورية حيال شقيقتها اللبنانية بفعل الافقار السوري للبنان، الى أن نصف الشعب السوري يعيش دون مستوى خط الفقر والنصف الآخر، باستثناء قلة، على هذا الخط، متجاهلاً ان نصف الشعب اللبناني كذلك يعيش دون ذلك المستوى، اي بما يوازي دولاراً واحداً في اليوم؟

بعبارات بسيطة جداً، مستوحاة من الجدل الذي اثاره كلام خدام عن الاموال التي تفوق الـ35 مليون دولار والتي اتهم العميد الركن رستم غزالي رئيس جهاز الامن والاستطلاع السوري سابقاً في لبنان بـ"أخذها" من بنك المدينة اللبناني وامام عيون مصرف لبنان (!)، ومن سؤال الرئيس بشار الاسد لخدام من اين لغزالي الاموال التي عمّر بها، بحسب خدام، الدارة والسوق في مسقطه – يتساءل اللبنانيون، ومعهم السوريون: من اي مصرف استخرج خدام المليار والمئة مليون دولار التي قدّرها النظام السوري انها ثروة نائب الرئيس وعائلته؟

... وبعد، يتساءل اللبنانيون: من اين لأصحاب النفوذ إبان الحكم السوري – ومن دون استثناء – تلك الاموال والاطيان؟

ومن سيّب لبنان وخيراته وامواله الى درجة ان سرقة المال العام لم تكف، فامتدت الايدي الى المال الخاص، مال المودعين في مصارف عدة، وليس حصراً بنك المدينة حتى لا "نظلم" رستم غزالي؟

ذلك بأن التدقيق في ملفات المصارف التي "تعثرت"، لا بد ان يكشف جبل الجليد الذي يبدو ان بنك المدينة هو رأسه. وهنا نسجّل لنائب الرئيس السابق لمجلس الوزراء عصام فارس معارضته الشديدة للتمديد لقانون الدمج المصرفي دون اضافة مواد لملاحقة المرتكبين في المصارف المنهوبة، وعدم الاكتفاء بضمان اموال المودعين، كما حصل مع بنك المدينة بوضع اليد على عقاراته لحساب هؤلاء.

صحيح ان لا احد، في لبنان والعالم كله، يعارض البحث عن الحقيقة في جريمة العصر، اي الاغتيال الوحشي للرئيس الشهيد رفيق الحريري، وإن استغرق التحقيق وقتاً طويلاً لملاحقة المجرمين وسوقهم الى المشانق والمحارق. ولكن شرط الا يقتصر نشدان الحقيقة على الفصل الاخير من التراجيديا اللبنانية – السورية، اي احراق الرئيس الحريري في قلب مشروعه الاعماري الكبير "سوليدير" الذي يعترف قريبون منه بأنه دفع ثمنه غالياً في سوريا حتى حصل عليه.

لذلك يجب عدم التهليل كثيراً لـ"وطنية" خدام، و"يقظة" ضميره الاخيرة، وهو المثقل بمعظم ما اصاب لبنان من ويلات أدت الى افقاره، واذلال قادته والغائهم عند الحاجة، وتهجير شعبه بشتى الوسائل، فضلا عن افقاده سيادته واستقلاله وقراره الحر.

والازمة الوزارية الحالية هي جزء مما فعله بالبلد خدام والنظام الذي حكم لبنان. وهو مسؤول عن تعميق الانقسام بين اللبنانيين، وتوزيع الوطن حصصاً ومغانم، والحؤول دون تلاقي اهل البلاد وتحاورهم من اجل التصالح وبناء دولة تشبه بقية الدول السيدة.

ولفك العقدة الشيعية يدور حوار بين "حزب الله" وحركة "أمل" من جهة ورئيس الحكومة من جهة اخرى، ويقابله حوار في الموضوع عينه بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس كتلة "المستقبل" النيابية سعد الحريري. ويشارك في هذا الحوار كذلك أفرقاء كثيرون كان ممنوعا عليهم التحاور. وهم يتبادلون اليوم وجهات النظر، وإن بالواسطة أحيانا كمثل نقل الرئيس السنيورة الى الفريق الشيعي وجهات نظر غير سنية، ومسيحية حصرا متمسكة بالقرار 1559 وبضرورة تنفيذه، وبعدم "اللعب" على قرار دولي لا يحق لأي حكومة تعديله او المناورة في شأنه.

وحبذا لو يتوسع الحوار أكثر نظرا الى وجود حاجة لأن يفهم كل طرف وجهة نظر الآخر، ويدرك الحدود العائدة اليه والتي يجب عدم تخطيها لأنها تمس بحقوق الآخرين ومصالحهم.

وقد ظهرت من خلال الحوار مساوىء الاتفاقات المنفردة والمتخذة من خلف الستار، مثل "اتفاق الرياض" الذي يطالب الفريق الشيعي بتطبيقه، وهو ينص على عدم اعتبار المقاومة ميليشيا مما يجعل القرار 1559 غير قابل للتطبيق على "حزب الله"، الى اعتبار القرار مطبقا بالبنود الخارجية. كذلك يجري البحث بين بري والحريري على "اتفاق جدة" الذي يعتقد انه يسهّل عودة الوزراء المعتكفين الى مجلس الوزراء، في حين المطلوب حوار موسّع في رعاية مجلس النواب، للبننة الحلول واستيحاء الدستور في مندرجاتها.

إنها بداية وهي ضرورية للخروج من "دولة خدام"، الى الدولة المساوية بين المواطنين، على أساس ان الوطن هو للجميع، ولا أحد يحق له تقاسمه لانه لا يقسّم، ولا مصادرته بالسلاح ولا بغيره. وان العيش المشترك لا يعني الاستئثار والاستلاب وتعميم الفساد.

واذا كان لا بد من ان تكون هناك بداية على طريق الاستقلال والسيادة، فلتكن عبر ثقافة مدنية جديدة تشكّل بديلاً من ثقافة الوصاية. ثقافة تقوم على الشفافية والمساءلة والمحاسبة والولاء للوطن، ولو تطلب الوصول اليها دهراً.