د. فيصل القاسم

كما أن الثورة المعلوماتية الحديثة جعلت من العالم قرية صغيرة حسب توصيف العالم الكندي مارشال ماك لوهان فإنها في الوقت ذاته ساهمت وتساهم بشكل مطرد وغير مباشر في توحيد القوميات التي يتشكل منها العالم وتعزيز ثقافاتها وتأكيد هوياتها. أي أن العولمة قد تفرز ضدها في بعض الأحيان وهو ما لايتمناه سادة العالم الذين يريدون إعادة تشكيل المعمورة على هواهم ليصبح نسخة طبق الأصل عن ثقافاتهم. صحيح أن وسائل الاتصال الحديثة من أقمار اصطناعية وانترنت والأدوات العابرة للحدود والقارات قد صهرت العالم في بوتقة واحدة وجعلته مجالاً واحداً، إلا أنها دون أن تدري أعادت ووطدت الروابط التي انقطعت بين الكثير من الكتل القومية والثقافية التي أرادت العولمة تذويبها وصهرها في كيان واحد، وبالتالي جعلت منها من غير قصد عوائق كأداء في طريق التعولم المقصود.

صحيح أن شبكة الانترنت مفتوحة أمام كل سكان العالم ليبحروا فيها متى وحيثما شاءوا ويتفاعلوا فيما بينهم، وصحيح أيضاً أن تكنولوجيا الأقمار الصناعية جعلت كل فضائيات العالم متاحة للجميع دون استثناء، لكن لو نظرنا إلى تأثير وسائل العولمة الجديدة لوجدنا أنه يكاد ينحصر داخل قوميات ومجتمعات بعينها ولا يحقق غرضه العولمي المنشود لسبب بسيط، وهو أن العالم قد يلتقي تكنولوجياً لكنه يبقى مجزءاً ومستقلاً ومنفصلاً ثقافياً إن لم يزدد تقوقعاً مهما قويت وسائل العولمة وأدواتها، وبالتالي تكون العولمة أداة توحيد إقليمية وقومية أكثر منها أداة تجميع وصهر وتذويب عالمية. فبالرغم من أن كل مواقع الشبكة العنكبوتية متوافرة لدى القاصي والداني فإن المواقع الأكثر ارتياداً من قبل مستخدمي الانترنت العرب مثلاً هي مواقع عربية قطرية أو قومية بامتياز.

ولو أخذنا البث الفضائي مثالاً لرأينا أن العرب التفوا حول قنواتهم القومية دون سواها ليس فقط بسبب عامل اللغة بل بسبب العامل الثقافي والقومي تحديداً. فإذا ألقينا نظرة على القنوات التي يشاهدها العرب من المحيط إلى الخليج، نجد أنها فضائيات عربية بمجملها، وقد لا يزيد عددها على عشرين قناة بالرغم من أن الساتلايت يتيح للناس مشاهدة أكثر من ألف قناة عالمية في بعض الأحيان. لكن المشاهد يحصر مشاهدته في القنوات التي تعبر عن ثقافته القومية في السياسة والاجتماع والموسيقى والترفيه. وقلما تجد قناة أجنبية ضمن القنوات العشر المفضلة الأولى لدى ملايين المشاهدين العرب. ربما قد يبرمج بعض المثقفين والمتقنين للغات الأجنبية والمهتمين بالسياسات والثقافات العالمية بعض القنوات الأوروبية والأمريكية ضمن قائمة القنوات المفضلة على أجهزة الاستقبال لديهم، لكن عدد هؤلاء محدود جداً ولا يمثل الطيف الشعبي العام.

وكما ساهمت وسائل العولمة في التقريب بين العرب وجعلهم كياناً واحداً على الأقل ثقافياً، فإنها كانت أيضاً عوناً للإسلاميين الذين وسعوا رقعة نشاطهم السياسي والثقافي مستغلين الشبكة العنكبوتية وغيرها في مقارعة أعدائهم سادة العولمة. هل كانت "القاعدة" بقيادة أسامة بن لادن لتحظى بهذا التأثير والانتشار الدوليين لولا أدوات العولمة الإعلامية من فضائيات وشبكات اتصال؟ بالطبع لا.

ومما يزيد في حنق سادة العولمة وموجهيها أنه حتى العرب الذين يعيشون في الغرب والذين يتقنون لغات البلدان التي يقطنون فيها ومن المفترض أنهم انصهروا في المجتمعات الغربية نجد أن جل مشاهدتهم ينحصر في القنوات العربية. صحيح أن المشاهد العربي قد يشاهد القنوات المحلية في أوروبا مثلاً لكنه بعد وصول البث الفضائي العربي إلى ديار الغربة قلل كثيراً من متابعته للقنوات الأوروبية وحصر اهتمامه بالفضائيات العربية العابرة للحدود. لهذا السبب تحديداً فرضت السلطات الفرنسية في فترة من الفترات قيوداً على تركيب أجهزة الاستقبال الفضائية في المناطق التي يسكنها الأجانب والعرب لا لشيء إلا لأنها وجدت أن السواد الأعظم منهم راح يشاهد قنواته القومية وهجر القنوات الفرنسية المحلية مما أفشل تماماً ما يسمى بسياسة الإدماج الفرنسية المعروفة الهادفة إلى صهر الأجانب في المجتمع الفرنسي. بعبارة أخرى فإن ثقافة التجمعات القومية (الفيتو) في الغرب من سخرية القدر قد تعززت أكثر فأكثر بعد ظهور وسائل العولمة التي تنشد التذويب الثقافي والتوحيد العالمي، وبدلاً من الانصهار الثقافي توطد التشظي الثقافي والقومي مما جعل الدول الغربية تراقب الوضع عن كثب خشية أن تتحول إلى مسرح للصرعات العرقية والثقافية. بدورها تقوم السلطات في الكثير من البلدان الأوروبية بمراقبة البرامج التي تبثها بعض القنوات العربية وتدرس تأثيرها على العرب المقيمين فيها، خاصة بعدما راح المغتربون العرب يزدادون تعلقاً واهتماماً بقضايا بلدانهم بفضل وسائل العولمة الحديثة.

ومن الواضح أيضاَ أن التأثير العكسي للعولمة لا يقتصر على الأوساط الشعبية فقط بل طال أيضاً شرائح المثقفين المنفتحين على الثقافات الأخرى، فقد سمعت من كثير من الفرانكوفيين في دول المغرب العربي أنهم تخلوا عن متابعة القنوات الفرنسية مثلاً بعدما أشبعت القنوات العربية نهمهم السياسي والثقافي والمعرفي. بعبارة أخرى فإن العولمة الإعلامية تحديداً لم توحد فقط الشارع العربي من المحيط إلى الخليج وجدانياً وثقافياً بل حيدت أيضاً بعض النخب التي كانت محسوبة على التيار الغربي أو العالمي المتعولم وجعلتها أكثر قرباً من قضايا وطنها وثقافته.

باختصار فإن مفعول العولمة جاء عكسياً على الصعيد العربي. وربما كفرّت تكنولوجيا المعلومات الغربية من خلال توحيدها للشارع العربي دون قصد عن ذنوب المستعمرين الغربيين الذين سعوا عبر تاريخهم إلى دق الأسافين بين العرب وتفريقهم عملاً بالاستراتيجية الاستعمارية القائمة على مبدأ «فرق تسد». صحيح أن الواقع السياسي العربي ما زال مشرذماً، إلا أن الواقع الثقافي القومي ازداد صلابة وتوحداً. بعبارة أخرى فإن العولمة نجحت حيث فشلت الأحزاب القومية العربية. ولعل القنوات الفضائية العربية العابرة للحدود أنجزت على صعيد الوحدة الثقافية أكثر من كل الشعارات والحركات "القومجية" مجتمعة. وهذا ما جعل حرب الأفكار التي تشنها أمريكا على العالم العربي مثلاً تواجه عقبات وصعوبات متصاعدة بفضل وسائل الاتصال التي انتجتها العقول الأمريكية والأوروبية واليابانية والتي على ما يبدو غدت سلاحاً يستخدمه العرب وغيرهم في الاتجاه المعاكس تماماً للعولمة المنشودة أمريكياً.

والمدهش أن أمريكا راعية العولمة لم تتذمر وتشتك من بعض وسائل الإعلام العربية وحتى تهددها إلا في عصر السماوات المفتوحة. كيف لا وتلك الوسائل الجديدة تعمل بمبدأ: "داوني بالتي كانت هي الداء". أي أن بعض العرب نجحوا إلى حد كبير في استخدام سلاح العولمة الإعلامية ضد صانعي ذلك السلاح أنفسهم. فهل انقلبت العولمة إلى عوربة في حالتنا العربية؟ ألم تستطع العوربة أن تصرع العولمة بأدواتها على المدى القريب على الأقل؟