د.إبراهيم حمّامي

سماسرة، متاجرون، بائعون، مفرطون، متآمرون وغزاة، مروا عليك يا قدس الأقداس، سقطوا وذهبوا وبقي أفاضل الناس، وبقيت القدس شامخة صامدة تناطح السحاب، تصارع وتصرع من بها بغير حق يطمح، وعلى حسابها بالمنصب والمصلحة يطمع، ليعاود سماسرة ومتاجرون وبائعون ومفرطون ومتآمرون من جديد مرة ومرات، استغلال القدس والمقدسات، بتاريخها ومكانتها وموقعها وشموخها، لحساب صراعاتهم ومصالحهم دون خجل أو وجل، وبكلام يخلط السم بالعسل، المهم أن يبقى الأوحد والمصلح ومن معهم وصل.

القدس: تناسوها، اضاعوها، باعوها بأبخس الأثمان، تذكروها فجأة وأخرجوها من طي النسيان، أين كنتم وقت الملحمة واللقاء، والتضحية والفداء، يوم كانت القدس تستصرخكم وأنتم لا تسمعون النداء، أما الآن وقد وصلت النصال حد رقابكم، وبدأ وقت الحساب، من أين لكم هذا؟ وماذا قدمتم في سنوات عجاف أسقيتمونا فيها العلقم، وأوصلتمونا حد الفناء، بالفساد والرذيلة والبغاء، وتاجرتم بكل شيء المال والعرض والدماء، حتى حركتكم التي جعلت منكم قادة وأدعياء، تمردتم عليها وانقلبتم، فهل مصير القدس عندكم يستحق العناء؟

القدس: أضعتموها وقبلتم أن تكون خارج حدود الدويلة المسخ التي ارتضيتموها على أقل من ربع مساحة فلسطيننا، وقبلتم أن يؤجل فيها الكلام حتى يستكمل المحتل مخططه وأنتم نيام، وقبلتم أن يُرتهن أهلها أكثر من مرة لمكاتب البريد عندما كانت الأمور غير الأمور والأحوال غير الأحوال، أطلقتم عنان حناجركم ضد النفق ومستوطنة جبل أبو غنيم، وسقط الشهداء الأبرار دفاعاً عن حقنا في القدس، ليذهب كبيركم بعدها ويلتقي بكبيرهم في القدس التي تأن تحت حراب الاحتلال، وافتُتح النفق وبُنيت المستوطنة، لكن هذا لم يكن يوماً ليزعج التنسيق والتعامل والتعاون مع المحتل.

القدس: فجأة أصبحت قميص عثمان بعد قميص مروان، وبدأ الأوحد والمتمصلح والدعي وباقي الزمرة بالمزاودة، تذكروا فجأة قول مظفر النواب "القدس عروس عروبتكم"، لتصبح العروس رهينة فشلكم وخوفكم وذعركم من يوم الحساب وما يليه من عقاب، كل زعران الزمان نطقوا وأصدروا الفتاوى "القدس القدس"، وكأن شعبنا نسيها يوماً أو غفل عنها كما غفلوا، أو تناسها كما نسوا، أو تآمر عليها كما تآمروا ويتآمرون، من ينكر مكانة القدس في قلوبنا، ومن ينسى أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومن ينسى كنائسها ومقدساتها، ومن للقدس غير شعب أبي ضحى ويضحي بكل ما يملك، في وقت يأبى تجار هذا الزمان إلا أن يقحموا القدس في تجارتهم الخاسرة، وليصبح الوطني خائن، والسمسار شريف، وبائع الحقوق هو دعي التمسك بها، والفاسد متمصلح المكان والزمان؟

القدس وأهلها وشعب فلسطين أكبر من أصاغر التاريخ، ومكانتها في قلوبنا حفرت بالدم والعطاء، ولا يحق لي أو لغيري أن ينساها أو يتنازل عنها أو يفرط بحبة رمل منها، لا هي ولا كل حبة رمل في فلسطين، ولا يحق لا أحد أن يتجاوزها، لكن أيضاً ليس لأدعياء الباطل أن يتخذوها هزواً وذريعة وألعوبة لتمرير مصالحهم وتحقيق مآربهم، بعد أن أُسقط في يدهم ودنت الساعة واقترب الموعد، ليوزعوا شهاداتهم الباطلة عن تمسكهم بما فرطوا وباعوا دون غيرهم.

ما أشبه اليوم بالبارحة، في كل حقبة من التاريخ يخرج علينا من نصبوا أنفسهم زعماء وقادة، تجار زمانهم، وقبل تجار اليوم كان تجار الأمس، تلاعبوا بالقدس تماماً كما يتلاعب بها تجار اليوم، ولمصالح شخصية وضيعة تماماً كما يحدث اليوم، وتآمروا مع الغزاة الطامعين لنصرة فريق قديم على آخر شاب جديد تماماً كما يتآمر الحرس القديم على الجديد وبالعكس، لكنهم جميعاً انتهوا في هوامش كتب التاريخ تتنزل عليهم اللعنات دون الرحمات، وبقيت القدس وستبقى بأهلها وشعبها وأبنائها الأبرار الطهّار، أما السماسرة والمتاجرون والبائعون والمفرطون والمتآمرون والغزاة فإلى زوال وهلاك، وهاكم قصة المتاجرون بالقدس بالأمس والتي نعيش فصولها تماماً اليوم.
الأيوبيون والصراع مع الصليبيين دب النزاع والشقاق بين خلفاء صلاح الدين، ودخلوا بعد سنوات من وفاته في صراعات دموية أضعفتهم، وقوت شوكة المملكة الصليبية في عكا التي استمرت وتمددت في بعض الأحيان على حسابهم. لقد كان حب الدنيا وحب السلطان ولو على حساب المبادئ والمقدسات أحد المظاهر التي حكمت عدداً من سلاطين الدولة الأيوبية، فتحالف بعضهم مع الصليبيين ضد بعض وعرضوا عليهم بيت المقدس أكثر من مرة مقابل أن ينتصر سلطان الشام على سلطان مصر أو العكس!! وقد سعد الصليبيون بهذا الدور الذي لعبوه، ولكنهم ظلوا على طمعهم في الجميع، غير أن ربيع الصليبيين لم يدم طويلاً.

انتهت الحملة الصليبية الرابعة التي أرسلها الغرب 601هـ-1204م في القسطنطينية- ولم تصل إلى الشام أو مصر(127)، أما الحملة الخامسة فقد انطلقت من عكا نفسها بقيادة ملكها يوحنا بريين إلى دمياط بمصر 615-618هـ - 1218-1221م. وعندما شعر السلطان الأيوبي الكامل محمد بن محمد بن أيوب بخطورة الوضع عرض على الفرنج الصلح مقابل تسليمهم القدس ومعظم فتوح صلاح الدين، فرفضوا وطالبوا بجنوب شرق الأردن أيضاً (الكرك والشوبك...) وقام الملك المعظم عيسى بن أحمد بن أيوب صاحب دمشق بتدمير أسوار القدس وتخريبها حتى لا يستفيد منها الفرنج إذا احتلوها 616هـ -1219م لكن الأيوبيين حشدوا قواهم في النهاية واستطاعوا هزيمة الصليبيين الذين عادوا خائبين إلى عكا بعد أن فاتتهم فرصة عظيمة.

ثم إن الخلاف الناشب بين الكامل محمد والمعظم عيسى أدى إلى استنجاد الكامل محمد بفردريك الثاني امبراطور الامبراطورية الرومانية المقدسة والذي أصبح وصياً على عرش مملكة عكا الصليبية، ووعده بتسليمه القدس إن هو ساعده على أخيه المعظم عيسى. وجاء فريدريك الثاني يقود الحملة الصليبية السادسة ووصل إلى عكا سنة 625هـ-1228م، ورغم أن المعظم عيسى توفي مما مكن أخويه الكامل والأشرف من اقتسام أملاكه مع إعطاء ابنه الناصر داود الكرك والبلقاء والأغوار والسلط والشوبك، ولم يعد الكامل بحاجة إلى فردريك الثاني، إلا أن الكامل فرط في القدس «وفاء» بعهده لفردريك!! الذي لم يكن لديه من القوة ما يكفي لإجبار المسلمين على التنازل عن القدس بل إن فردريك اضطر للبكاء واستعطاف الكامل في مراحل المفاوضات ليتسلم القدس!! ومما قاله للكامل «... أنا مملوكك وعتيقك وليس لي عما تأمره خروج.... فإن رأى السلطان أن ينعم علي بقبضة البلد والزيارة فيكون صدقة منه ويرتفع رأسي بين ملوك البحر»!! واستجاب له الكامل وعقد معه صلح يافا 626هـ- 18فبراير 1229م لمدة عشر سنوات وبمقتضاه تقرر أن يأخذ الفرنجة بيت المقدس وبيت لحم وتبنين وهونين وصيدا مع شريط من الأرض من القدس يخترق اللد وينتهي عند يافا فضلاً عن الناصرة وغرب الجليل، على أن يكون الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى بأيدي المسلمين.

واستمر الصراع بين أبناء البيت الأيوبي، غير أن الناصر داود صاحب الأردن انتهز فرصة انتهاء مدة صلح يافا وتحصين الفرنج بيت المقدس بخلاف الشروط فاستولى على القدس وطرد منها الفرنج 6 جمادى الأولى 637هـ - 7 ديسمبر 1239 ولكن الصالح إسماعيل صاحب دمشق سلمها لهم 638هـ-1240م!! بعد أن طلب مساعدتهم له ضد صاحب مصر الصالح نجم الدين أيوب، هذا فضلاً عن تسليمهم عسقلان وقلعة الشقيف ونهر الموجب وأعمالها وقلعة صفد وأعمالها ومناصفة صيدا وطبرية وأعمالهما وجبل عامل وسائر بلاد الساحل... وقد أثار هذا التصرف سخط المسلمين الذين «أكثروا من التشنيع على الملك الصالح إسماعيل» وهكذا عادت القدس مرة أخرى للفرنج.

وعندما حشد الصالح إسماعيل قواته لينضم إلى حلفائه الفرنج عند غزة لقتال الصالح أيوب رفض جند الشام محالفة الفرنج ضد إخوانهم فانحازوا إلى جند مصر وهزموا الفرنج هزيمة كبيرة، ولكن الصالح أيوب صالحهم 638هـ -1240م واستقرت سيطرتهم على بيت المقدس وما أعطاهم إياه الصالح إسماعيل.

ومرة أخرى دخل أبناء البيت الأيوبي في الصراع وظلت القدس والأرض المقدسة ورقة يلعبون بها في تهافتهم على السلطة والنفوذ. فقد عرض الصالح إسماعيل مرة أخرى على الفرنج في عكا التحالف مقابل أن يسيطروا على القدس سيطرة تامة بما في ذلك الصخرة والمسجد الأقصى، وانضم إليه في ذلك الناصر داود، وفي الوقت نفسه عرض الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر على الصليبيين أنفسهم نفس العرض مقابل التحالف معهم!

واختار الفرنج التحالف مع الصالح إسماعيل الذي شرع في غزو مصر بمساعدة حليفه الناصر داود والمنصور إبراهيم ملك حمص إلى جانب الفرنج. واستعان الصالح نجم الدين أيوب بالخوارزمية الذين جاءوا لمساعدته في قوة من عشرة آلاف مقاتل في طريقها إليه بالاستيلاء على طبرية ونابلس، اقتحمت بيت المقدس في 17 يوليو واستعادت بيت المقدس بشكل كامل إلى حظيرة الإسلام 642هـ - 23 أغسطس 1244م. وبذلك عادت بيت المقدس نهائياً إلى أيدي المسلمين، وظلت تحتفظ بهويتها الإسلامية حتى دخلها الإنجليز في 10 ديسمبر 1917.
هل من متعظ؟