السفير/أُبيّ حسن

كان من الطبيعي جداً أن يصف النظام السوري تقرير ميليس بما وصفه، فهو من وجهة نظره مسيّس ومؤامرة تريد النيل من سوريا وتغيير نظامها (القومي، الصامد في وجه المخططات، الخ ...)، ومن حقه أن يصفه بما يشاء مستقبلاً. قد يكون كلام النظام هذا، مبرراً سواء أكان من وجهة نظره كنظام، أم من وجهة نظر غالبية السوريين التي تخاف هي الأخرى على نفسها كمتضرر رئيسي من انعكاساته لا سيما الداخلية منها. وبمعزل عن كلا الأمرين قد يكون الرفض معقولاً انطلاقاً مما جاء في ثنايا التقرير التي لم تحفل بالكثير عما كانت تتناقله الأفواه بعيد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري..

لكن ومن وجهة نظر ثانية لو كان التقرير مسيّساً بالشكل الذي تشطح إليه ظنون البعض واتهاماتهم، من السوريين وسواهم، تُرى لماذا لم يذكر التقرير حزب الله <<الإرهابي>> بنظر أميركا وإسرائيل؟ أليست مجرد الإشارة إليه تعتبر بمثابة فرصة ذهبية للولايات المتحدة كي تركّعه؟ ربما عدم توجيهه الاتهام إلى حزب الله تصب في مصلحة نزاهة القاضي ميليس، في المقابل يمكننا التشكيك بنزاهته من خلال تلميحه إلى المستر <<اكس>> وأشياء أخرى وردت في طيات تقريره.

جاءت في التقرير نقاط كثيرة كان بإمكان النظام السوري أن يفنّدها، واحدة بعد أخرى، فقط لو استعان بخبراء حقوقيين سوريين، وعدم إقدامه على ذلك إن دلّ على شيء فإنه يدل على عجزه الكبير في قراءة الواقع ومعطياته بغية التعامل معه وفق أسس جديدة.

تأتي أهمية الاستعانة بهولاء الخبراء (من دون أن نذكر أسماء بعينها) كبديل عن أمرين، أولهما: عوضاً عن المسيرة التضامنية التي لا تسمن ولا تُغني والتي قام بها القضاة والحقوقيون السوريون كتعبير عن استنكارهم لما جاء في التقرير من اتهام سوريا بجرم لم ترتكبه من وجهة نظرهم المطابقة لوجهة نظر النظام. والأمر الثاني وهو مشتق عن الأول: كان من المفترض أن تقوم تلك النخبة من الخبراء الحقوقيين هي بعقد المؤتمر الصحافي عوضاً عن رياض الداوودي المستشار القانوني لوزارة الخارجية السورية، مبيّنة للرأي العام الثغرات التي ينطوي عليها التقرير.

لكن، ومن جهة أخرى أيضاً، نجد أن ميليس قال مراراً وتكراراً إنه لا يوجه أصبع الاتهام إلى احد، وان تقريره ليس نهائياً، فلماذا الطعن بكل ما جاء فيه؟ من ثم لو كان النظام السوري وهذا الأهم متيقناً من براءته وجاداً في نفي التهم عن نفسه، لماذا لم يفتح تحقيقاً بقضية الاغتيال منذ لحظة وقوعها، وهذا أضعف الإيمان!! بحكم تواجده في لبنان أثناء الجريمة وبحكم انه هو المتهم الوحيد بمعونة أصدقائه من المسجونين من قادة الأجهزة الأمنية اللبنانية السابقة؟ هل من المعقول أن ينتظر ثمانية أشهر كي يأخذ قراره بفتح تحقيق، كما يحدث الآن؟ وهل يكفي أن يعقد النظام مناحات بكاء على عتبات الدول (الصديقة)، وان يجيّش طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة وغيرهم من موظفي الحكومة في مسيرات تأييد للقيادة (الشجاعة) و(الحكيمة)، لتستنكر ما جاء في التقرير، جملة وتفصيلاً، كي يصدق العالم ويقتنع ببراءة النظام من جريمة أعادت الأجواء إلى مخاضات هزيمة حزيران مع فارق كبير، ألا وهو عدم وجود اتحاد سوفياتي؟ وفي هذه النقطة بالذات رأى الكثيرون أن تقرير ميليس هو أبعد من تحقيق، كما رأى آخرون أن تعاطي النظام السوري مع هذه الأحداث بكل تعقيداتها وملابساتها ومسبباتها هو أكثر من إخفاق.

ولعل المتأمل في مخاضات المرحلة الراهنة، وما أفرزته المعطيات الدولية من خلال طريقة تعاطيها مع نتائج التقرير، بكل تعقيداتها لا يجد فيها سوى استحضار لأجواء 1967 وما تلاها، بهذا المعنى يكون التقرير (وما سيليه) أبعد من التحقيق في جريمة اغتيال.

نعم إنها أجواء حزيران بالتأكيد، وهي أبعاد لا يريد النظام تصديقها، لأنه أعجز من أن يصدقها. وفعلا أن العزلة التي يعيشها النظام السوري بشقيها الداخلي والخارجي، تذكرنا بأجواء 1967 وما تلاها، لكن من الإجحاف تحميل وزر هذه الأجواء إلى مخططات إمبريالية حسب وجهة نظر البعثيين أو بعض الشوفينيين من الشيوعيين، الذين لا يتعدّى فهمهم السياسي نظرية المؤامرة (وعلى رأس هذه المخططات تقرير ميليس الذي يريدون تحميله وزر خطاياهم)، قدر ما تتحمّل وزر هذه النتائج أنظمة عربية مافتئت تعيد إنتاج بناها المتفسخة انطلاقاً من رحم ثقافة من الصعب أن تنتج غير ما نحن عليه.

جملة من الأسباب جعلت المسرح السوري مهيئاً ليحمل في أحشائه جنيناً حزيرانياً آخر، فإذا ما التفتنا إلى داخله، نرى أن النظام السوري، الذي عجز عن إصلاح ذاته لأسباب لسنا في وارد ذكرها الآن، ارتكب سلسلة من الأخطاء السياسية الخارجية ينطبق عليها القول المأثور <<وجنت على نفسها براقش>>، ذلك منذ بدء استخفافه بنداءات المعارضة اللبنانية الرامية إلى تصحيح الأخطاء في العلاقات السورية اللبنانية، من ثم مقامرته بالتمديد للرئيس لحود، وتأتي ثالثة الأثافي التي نلمسها في آلية التفكير السياسي للنظام وهي آلية لم تخرج من عباءة السبعينات دون النظر إلى ما يجري في العالم من متغيرات!

ولئن كان ثمة حلول تبدو للوهلة الأولى ممكنة، لكنها في حقيقة الأمر أبعد ما تكون عن الخيال، فضلاً عن أن المساحة الزمنية المتبقية أمام الرئيس السوري غير كافية كي يحل معادلة تنتمي في خيوطها إلى النوع الميلودرامي الشديد التعقيد في عنصره المأساوي، فالصراع الداخلي بين تسليم المتورطين (في حال إدانتهم قضائياً) وهم آل البيت وأركان الحكم، وبين الجنوح بسوريا نحو هاوية لا أحد يمكنه التنبؤ بمدى عمقها وكارثيتها، غير كافية له بالتأكيد كي يأخذ قراراً في أخطر أزمة يواجهها حكمه منذ العام 2000، ونجزم أنها غير كافية إذا ما نظرنا إلى سنوات خمس من ولايته لم يحقق فيها إلا النذر اليسير من وعوده في ما يخصّ استحقاقات الداخل، فكيف سيتمكّن بأقل من شهرين أخذ قرار مصيري محاكمة أو تسليم المشتبه بهم قد يكون من شأنه أن يعود بسوريا إلى أجواء 1984 والصراع بين الأسدين الشقيقين؟

أدرك النظام السوري مؤخراً (كالعادة) ضرورة إجراء تحقيق خاص به في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، وبمعزل عن تساؤلنا عن مدى صلاحيات المحققين وجدية التحقيق وشموليته من حيث الشخصيات السورية الرسمية التي يمكن أن يطالها، ألا يرى المعنيون في الأمر أنه أتى في الوقت الضائع ، شأنه شأن تأكيدهم على حل المشكلة الكردية مثلاً التي بقيت عالقة بين وعود السلطة ومطرقة أجهزة المخابرات منذ حوالى الثلاث سنوات (أعني عقب زيارة الرئيس بشار الأسد لمحافظة الحسكة)، ومع ذلك لم تحرك قضية الأكراد سياسياً في الدوائر الرسمية، مع الآسف، إلا الآن، شأنها شأن قانون الأحزاب وشأنها كذلك شأن تفكير الحكومة السورية راهناً بإعادة النظر بقانون الطوارئ، وما تبقى من بعض استحقاقات الداخل.

حقيقة، إن إمكان إيجاد حل للورطة السورية هو أكبر من أماني الجميع، فالتقرير هو ابعد من تقرير، وسلوك النظام وآلية تعاطيه مع الأحداث كان (وما يزال) أكثر من إخفاق. ولعلي أتذكر مقولة جميلة لأحد الباحثين السوريين أختم بها: <<إن سوريا تبحث منذ 1949 عن ديكتاتور>>، فهل سيكون الخروج من أجواء حزيران الجديد حذاء عسكري أو ديني؟ الله أعلم.