النهار/ سركيس نعوم

يعمل رئيس الهيئة التنفيذية لحزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع منذ خروجه من السجن قبل نحو ستة أشهر لتحقيق ثلاثة أهداف مهمة في نظره. الأول، اعادة تنظيم الحزب بعد 11 سنة من توقفه عن قيادته فرضه عليه ادخاله السجن وبقاؤه فيه طوال هذه المدة وذلك في ضوء التطورات التي شهدتها صفوفه خلال تلك المدة وابرزها على الاطلاق محاولة "تشقيفه" أو شرذمته بقصد الاجهاز عليه وانهاء دوره على الساحتين المسيحية والوطنية، علماً ان هذه المحاولة ترافقت مع محاولات كثيرة لاحتواء الاحزاب المسيحية الموجودة بتمكين قياديين متعاونين فيها من الامساك بها وان تحولت "ضباطاً بلا عسكر" كما يقال وفي الوقت نفسه لدفع حزبيين مسيحيين كثر الى الانضواء تحت لواء احزاب اخرى طالما ناصبوها العداء بذريعة انها الوحيدة القادرة بنهجها وسياساتها وتحالفاتها المحلية والاقليمية على تأمين الحماية لهم وللمجتمع "المسيحي" الذي اليه ينتمون. والهدف الأول هذا ليس بالسهولة التي يتصورها كثيرون لكن انجازه ممكن. اولاً، لأن القاعدة القواتية المنظمة والصلبة والمهمة حافظت على نفسها وان في الحد الادنى المطلوب ربما لأن مثال التضحية بالنفس او على الاقل بالحرية الذي ضربه قائدها بتفضيله السجن على التسوية أو على المساومة او على الصفقة كان كبيراً وكبيراً جداً. وثانياً، لأن القيادة التي امسكت بالزمام بعد سجنه وبقرار منه والتي كانت زوجته النائبة حالياً ستريدا جعجع نجحت بتوجيهاته في المحافظة عليها بل في تنميتها رغم عدم تمكنها من احتواء كل من يمكن اعتبارهم بمقاييس اليوم حرساً قديماً، واذا كانت اخفقت في منع البعض من الانفصال أو من التغريد خارج السرب او حتى من الانضمام الى قيادات سياسية اخرى او من مسايرة الواقع السياسي بل "الوطني" العام الذي كان قائماً، فان مسؤولية ذلك تتوزع عليها وعلى هؤلاء مع ضرورة أخذ الواقع المشار اليه في الاعتبار ومعه الضغوط وحاجات رسمية والتشاؤم الذي طغى على الجميع في حينه او على الكثيرين. والهدف الثاني، هو تحديد السياسة العامة لـ"القوات اللبنانية" في المرحلة الحالية التي هي مرحلة استعادة الوطن واعادة بناء سيادته واستقلاله ومؤسساته واعادة ارساء تقاليد الحرية والديموقراطية الفعليتين فيه. وهذه المرحلة ليست سهلة بدورها رغم ان المرتكزات الاساسية للسياسة المطلوب تحديدها او التي يجري وضعها علنية وتالياً واضحة. وابرز هذه المرتكزات اتفاق الطائف أي الميثاق الوطني الجديد الذي "توافق" عليه اللبنانيون عام 1989 في المملكة العربية السعودية بكل ما يتضمنه من عيش مشترك له الأولوية ومن لبنان وطن نهائي له الاولوية ومن انتماء للعروبة لا يناقض الانتماء للوطن له الأولوية ومن تحرير للارض من الاحتلال له الاولوية ومن عودة الدولة الحرة والديموقراطية والسيدة والمسيطرة على كل اراضيها لها الاولوية. وفي هذه المرتكزات ما فيها من تخل عن سياسات وطموحات سابقة. اما الهدف الثالث، فهو المشاركة الفعلية في الحياة السياسية الوطنية من دون خوف وعقد وغموض (بنّاء او ملتبس) مع ما تقتضيه من اقامة تحالفات مع البعض ومن خوض منافسات مع البعض الاخر والحرص على الا يكون اللون الطائفي واحدا سواء في التحالفات او المنافسات. وتحقيق هذا الهدف ليس سهلاً بدوره رغم ان "القوات" وبعدما استعاد قيادتها من الوكيل الذي قادها بقرار منه سنوات طويلة. علماً ان البدء به قد حصل. فهذا الحزب ضمّه و"تيار المستقبل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" و"قرنة شهوان" تحالف اثناء الانتخابات النيابية الاخيرة. واثبت بعد انتهائها وخلال الاشهر الستة التي مرت على اجرائها ان تحالفه مع كل هذه الجهات كان سياسياً لا انتخابياً فقط. لكن ساحة التحالفات في الداخل سواء بين المسيحيين أو بين المسلمين او بين المسيحيين والمسلمين لا تزال عرضة لتبدلات وتغيرات كثيرة بسبب استمرار لبنان في مرحلة انتقالية وعجز "الفريق السيادي" كما يسميه أعضاؤه عن حسم معركته مع الاخرين في الداخل والخارج حتى الآن رغم الدعم الدولي والعربي له وربما بسبب عودة لبنان من جديد ساحة حرب او على الأقل مواجهة اقليمية – دولية – داخلية.

هل يعني ذلك ان "القوات اللبنانية" برئاسة سمير جعجع تجاوزت كل العقبات واجتازت كل الامتحانات في الداخل والخارج؟

لا يشك متابعو تحركها من قرب في انها تجاوزت الكثير من الاولى واجتازت الكثير من الثانية. لكن هؤلاء يعرفون ان الشكوك والمخاوف عند من كانوا يخالفون "القوات" الرأي والموقف سواء من الداخل المسيحي او من الداخل الاسلامي وسواء كانت شكوكهم ومخاوفهم صادقة او نابعة من سوء نية، يعرفون ان بعضاً من ذلك لا يزال قائماً. بدليل قيام البعض واستناداً الى منشورات وزعت أخيراً في الجنوب باتهام "القوات" بانتهاج سياستين واحدة جديدة وايجابية معلنة واخرى قديمة وسلبية. وقيام البعض الآخر استنادا الى قرص مدمج (فيلم قصير على سي.دي) بالقول ان القوات تعيد تعبئة الشارع المسيحي على النحو الذي تجيء فيه اثناء الحروب وبعد انتهائها بسنوات قليلة، وقيام البعض الثالث باتهام القوات بتدريب عناصرها على القتال بل على الحرب في احد "جبال" جبل لبنان. طبعاً بادرت قيادة القوات الى نفي اتهام البعض الأول والثالث علانية. واكدت للجهات السياسية المتنوعة المعنية عدم وجود أي صلة لها بما قاله البعض الثاني. ويبدو ان هذه الجهات تتعاطى هذا الموضوع بكثير من الحكمة. اذ ان بعضها قبل التوضيح وابدى استعداداً للتلاقي مع "القوات" وتقديراً لسياسات معلنة لها كانت غائبة في الماضي. كما ان البعض الآخر منها اشاد ومن على شاشات التلفزيون بالاداء السياسي "العلني" للقوات مشيراً الى عدم امكان تجاهل ذلك أو تجاوزه.

طبعاً، قد لا يستطيع القواتيون ان يبقوا في "دائرة" الشك ولكن هذا أمر طبيعي على ما يثيره من امتعاض. ووحدها السياسة الصريحة والواضحة والتصرفات المنبثقة منها والمتلائمة معها تزيل هذه الدائرة واي دائرة أخرى.

في اختصار يبدو ظاهراً على الاقل ان "القوات" تعلمت من الماضي أي ماضي الحرب وسنوات اللاسلم واللاحرب التي اعقبتها. ويتمنى اللبنانيون ومن ضمنهم المسيحيون ان يكون ذلك حقيقياً وصادقاً لأن ما يشاهدونه من تصرفات أكثر من جهة لبنانية في هذه المرحلة يشير الى انها لم تتعلم من الماضي بشقيه ولم تعتبر من تجارب غيرها ولا تزال تصر على ان "تجرب" بنفسها. ونتيجة تجربة كهذه الخراب. والمطلوب اليوم من القوات ان لا تسعى الى توحيد الصف المسيحي رغم انها مسيحية وان من حقها استقطاب القاعدة المسيحية، بل ان تعزز توجهها الوطني بالتحالف مع جهات اسلامية، فتوحيد الطوائف يوصل دائماً الى الحروب فضلاً عن انه يقضي على الحرية والديموقراطية. والمطلوب اليوم منها ايضاً ان لا تنجر الى صراعات داخلية عنيفة باعتبار ان الصراع السياسي او التنافس السياسي أمر مشروع قد يسعى اليه البعض معها او مع غيرها من داخل ومن خارج. والمطلوب من منافسيها على الساحة المسيحية ولنا بينهم اكثر من صديق باعتبار ان الخلاف في السياسة لا يفسد للود قضية على تنوعهم وتناقضهم الجوهري رغم تلاقيهم الظرفي والمصلحي ان ينظروا الى مصلحة لبنان الوطن والى مصلحة مسيحييه فيه وليس الى مصالح خاصة وطموحات سياسية او الى تصفية حسابات. فالصراعات بين المسيحيين ولدتها هذه المصالح والطموحات ووظفها الخارج على تنوعه فوصل لبنان الى التهلكة او كاد. والمطلوب من كل الجهات السياسية الداخلية على تنوعها الطائفي والمذهبي اعتماد "اجندة" سياسية وطنية واحدة معلنة. فالازدواجية في هذه المسألة الخطيرة من تاريخ لبنان والابتعاد عن هذا الواقع والواقعية وعدم الاكتفاء بانجاز استعادة لبنان الذي لم يكتمل بعد مع طموح غير مشروع الى ما ابعد من لبنان من شأنها تبديد الاهتمام الدولي والعربي الكبير بلبنان الذي طالما شكا ابناؤه من غيابه على مدى ثلاثة عقود واعادة الوطن جائزة ترضية او مقابلاً لكل من له مصلحة فيه "وتيئيس" اللبنانيين للمرة الألف كما يقال وتالياً لهجرتهم.