ضيا اسكندر

أدار القاضي التلفزيون على محطة فضائية تبث الأغاني الطربية بشكل دائم, وسأل ضيفه وزميله في المهنة منذ أكثر من عشرين عاماً بعد أن دق كأسه بكأسه وقد تعتعه السكر:

- هل تعلم ما هو سبب قيام الندامى بقرع كؤوس الخمرة في جلساتهم؟

أجاب القاضي الضيف بعد أن كرع جرعة ويسكي وهزّ رأسه يمنة ويسرة مستهجناً:

- يبدو أن الخرف قد بدأ يدبّ في أوصالك يا عزيزي..! كم مرة سألتني سابقاً هذا السؤال, وكم مرة أجبتك عليه؟ ومع ذلك سأجيبك للمرة الأخيرة؛ السبب هو أن الحواس الأربعة تشارك في عملية التمتع بالمشروب: الرؤية والتذوق واللمس والشم. ولكي تشترك الحاسة المتبقية وهي السمع, يقرعون كؤوسهم لسماع رنينها فتكتمل المتعة بأحلى تجلياتها... هل سررت؟ نخبك يا حبيب!

وشرعا بضحكة مجلجلة.

ملأ القاضي المضيف كأسه بقطع الثلج وصبّ ما تبقى من زجاجة الويسكي وسأل ضيفه:

- ما رأيك بلعبة الصراحة؟ يسأل كل منا ما يخطر بباله فيجيب الآخر بمنتهى الصراحة؛ سؤال مني وسؤال منك؟

- (قذف القاضي الضيف إلى فمه عدة لوزات وبدأ بجرْشها وأجاب هازئاً): يبدو إنه ليس الخرف وحده قد فعل فعله برأسك الأشيب.. بل الويسكي أيضاً.. أنسيت أننا في سهرة الأسبوع الماضي لعبنا ذات اللعبة؟

- وما المانع أن نلعبها من جديد يا صاحب أجمل صلعة في محكمتنا الموقرة, بل في القصر العدلي, بل في القصور العدلية, بل في.. (أحسّ برياحٍ في بطنه, فمال بجزعه وضرط بصوتٍ عالٍ!)

- (باستنكار واشمئزاز) هييييه! ما بك؟ ركّزْ قليلاً..

- هه..هه.. (متملّقاً) ولكْ وحياة الغوالي أحبك, أموت بك.. مم, قل لي: كيف كانت حصيلتك هذا الأسبوع؟

- (صعّر خدّه قائلاً) مبلغ تافه لا يستحق الذكر..

- بشرفك كم؟

- يا سيدي! فقط خمسة وسبعون.. وأنت؟

- ( رشف جرعة صغيرة من كأسه وأجاب باعتزاز): والله يا حبيب ثلاثة أضعاف حصيلتك..

- برافو... عظيم!

لحظات من الصمت, تغيرت خلالها سحنة القاضي المضيف واكتست ملامحه طابع الجدية

وأردف بعد تنهيدة:

- أيـــه! ربك حميد اقتصر ما تسمى حملة مكافحة الفساد على أولئك الثمانين من القضاة.. وهيهات أن تهز الحكومة أكتافها ويأتينا الدور..

- (أسند ظهره على الأريكة وأجاب باستخفاف واستكبار) يا سيدي وحتى لو أتانا الدور, ماذا يعني؟ أصبح لدينا من الأرصدة ما يكفي أحفاد أحفادنا.. المهم يا غالي! غداً ستصدر التشكيلة الجديدة للقضاة, ومن المتوقع أن تذهب من يدي القضية الدسمة التي أنظر بها وسوف تنتقل إليك.. هكذا علمْتُ.

- (ازدرد لقمة كافيار وقد عادت إليه حالة الثمالة وتلمّظ قائلاً): ولا يهمّك حبيب, اعتبرْها ما زالت في حوزتك..

- يا رجل فيها لا أقلّ من مليون! (غامزاً بإحدى عينيه) بالإضافة إلى ثلاث ليالي حمراء.. وكل ليلة مع واحدة جديدة..

- هه.. هه.. خلص كازنا يا حبيب! والفياغرا لم أعد أجرؤ على استخدامها بعد تحذير الطبيب. لذلك أتركُ لك الليالي الحمراء, أما الأتعاب فـ (فيفتي, فيفتي)..

- لا تكن طمّاعاً, يكفيك الربع.. لا تنسى حصة السمسار, ثم إنني أتعب عليها منذ أكثر من عام!

- ولكْ صدّقني لن نختلف, كأسك..

  كأسك..

- أيه حبيب! ماذا حصل بدعوى الميراث التي حدّثتك عنها البارحة.. تلك التي تم ردّي عنها بعد أن رفعتها للتدقيق.. الجماعة مستعدون للدفع.

- (أشعل سيجاراً كوبياً فاخراً وأجاب): أي يطعمهم الحج والناس راجعة... لقد سبقهم خصومهم.. وكما تعلم من يدفع أولاً يضحك أخيراً.

- لا حول ولا قوة إلا بالله.. دعنا نغيّر هذا الموضوع ولنتحدث بمواضيع أخرى..(متبرّماً) كلما اتفقنا على أن تخلو جلساتنا من الحديث بشؤون المحاكم ومتاعبها, نغوص فيها دون أن نشعر...

- طيب, فلنتحدث في السياسة قليلاً.. برأيك لماذا لم يقم أعضاء مجلس الشعب بالانقضاض على تاريخ (خدّام) وفضح سجلّه الإجرامي إلا بعد أن تحدّث هذا الأخير إلى قناة (العربية)؟ ترى, هل يمكن أن يتطور الأمر إلى فتح ملفات باقي الفاسدين الكبار قبل مغادرتهم مناصبهم ومحاسبتهم على..

- (مقاطعاً) فعلاً أمرك غريب! ألا يوجد لديك حل ثالث؟ إما الثرثرة بالدعاوى والمحاكم, أو الجعجعة بالسياسة؟!! ثم هل تعلم لمصلحة مَنْ فيما لو فُتح ملفّ الفساد على مصراعيه؟ صدّقني إننا قد نكون أول ضحاياه...

- هكذا قولك؟! أي بلا محاسبة بلا بطيخ.. كأسك حبيب!
  مممّه.. أبوس روحك أنا.. ولكْ اشربْ وعمره ما حدا يورث.. كأسك يا غالي كأسك..

- ولكْ كأسك وكأس الذي خلّفك...

قرعا كأسيهما وغرقا بضحكة هستيرية ماجنة..