الاتحاد/زبيجنيو بريجينسكي

جاء في تصريح للرئيس بوش عن المواجهات الدائرة مع المتمردين العراقيين في صيف عام 2003 قوله ’’احملوا عليهم واهزموهم’’• أما في صيف العام الماضي ،2005 فقد صرح نائبه ديك تشيني بالقول ’’يعاني التمرد من سكرات الموت، وها هو يلفظ أنفاسه الأخيرة’’• وفي حديث له بمناسبة أعياد الميلاد المجيد قال بوش ’’لقد أصبحت بلادنا أمام خيارين لا ثالث لهما، إما النصر أو الهزيمة في العراق’’! وهكذا تفصح خطابية الإدارة عن تراجعها وارتدادها عن مواقفها المتمسكة بإحراز نصر حاسم ونهائي في العراق• لكن فيما لو تضافر حسن الطالع، مع عدة عناصر أخرى منها المزيد من الشفافية والانفتاح في عملية صنع القرار داخل البيت الأبيض، ومنها إبداء قدر أكبر من الجرأة السياسية من جانب القادة الديمقراطيين، مصحوباً ببعض التشجيع والدعم من قبل ثقاة القيادات العراقية، فإنه ليس مستبعداً -إن لم يكن واجباً- وضع حد قريب للحرب الأميركية في العراق، في غضون عام واحد من الآن•

والواقع أن استراتيجية ’’النصر أو الهزيمة’’ ليست سوى خيار استراتيجي خاطئ ومضلل• أما الخيار الواقعي والعملي الذي يمكن تبنيه فهو ’’ثابر دون أن تفوز••• وتوقف دون أن تخسر’’• ذلك أن النصر وفقاً لتعريف الإدارة ومؤيديها له هو إقامة ديمقراطية علمانية مستقرة وراسخة، في إطار دولة عراقية موحدة، يسبقها إلحاق هزيمة عسكرية حاسمة وساحقة بالتمرد من قبل المقاتلين الأميركيين المدعومين بواسطة مقاتلي الجيش الوطني العراقي، الذين جرى تدريبهم على يد الضباط والجنرالات الأميركيين• وما أبعد تحقيق نصر كهذا، لكونه يتطلب أن تفوق القوات الأميركية عددها الحالي بكثير، فضلاً عن تمتعها بحماس وتأييد المواطنين العراقيين لجهودها الرامية لإخماد نار التمرد ومكافحته• فالحقيقة الماثلة للعيان حالياً هي أن حجم القوة الأميركية الموجودة في العراق ليس بما يكفي لسحق التمرد ولا لإخماد نار الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة التي بدأت ألسنة لهيبها تستعر كما نرى• والحقيقة أن كلتا المشكلتين ستواصلان تصاعدهما في ظل وجود احتلال أجنبي بغيض من وجهة نظر العراقيين•

وليس ذلك فحسب، بل إنه ليس متوقعاً أن يخضع الأكراد أو الشيعة مصالحهم الخاصة لسيطرة دولة عراقية موحدة ذات جيش وطني واحد هو الآخر• وكما هو واضح من خلال الصراع الدائر حتى هذه اللحظة حول تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، فإن القاسم المشترك بين القوتين الرئيسيتين هناك -التحالف الديني الشيعي والانفصاليين الأكراد- هو الحيلولة دون استعادة المسلمين السنة لهيمنتهم السابقة على السلطة وجهاز الحكم• ولذلك فإن كلتا القوتين تتمسك كل منهما بأن يكون لها جيشها المنفصل للدفاع عن مصالحها وأهدافها الخاصة، على حساب الطائفة السنية بالطبع• وبهذا المعنى فإنه يستحيل أصلاً بناء جيش وطني موحد، بالمعنى الحقيقي للجيش الوطني• بل أهم من ذلك كله أن إصرار واشنطن على إحراز نصر حاسم ونهائي في ظل ظروف وأوضاع بكل هذا التعقيد، لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر الفادحة في المال والأرواح، دعك من تصاعد كراهية المسلمين لأميركا وانحدار شرعيتها ومصداقيتها وسمعتها الأخلاقية إلى الحضيض!

إلى ذلك فإن المفهوم الأميركي عن ’’الهزيمة’’ مضلل هو الآخر• فكثيراً ما نسمع من المتحدثين الأميركيين الرسميين وغير الرسميين، مقارنات بين الهزيمة في العراق والهزيمة في فيتنام، على أن الأولى تكفل حرية حركة المتمردين العراقيين على عرض المحيط الأطلسي، وإمكان شنهم هجمات إرهابية جديدة على الولايات المتحدة في عقر دارها مجدداً• كما تذهب التصورات أيضاً إلى تحول المنطقة الشرق أوسطية برمتها إلى كتلة من النزاعات والحرائق واللهب• لكن على رغم ذلك، فإن الخيار الواقعي العملي إنما يكمن في منطقة ما، بين الخيارين التاليين:

أولاً قبول حقيقة تعقيد واقع عراق ما بعد صدام حسين، عبر انسحاب عسكري أجنبي سريع نسبياً، لابد أن يشمل بالضرورة مرحلة انتقالية، لا مفر فيها من تصاعد الصراع السياسي الوطني، إلى حين تتمكن القيادات والأغلبية العراقية معاً، من ترتيب أوضاعها وتحديد مسار البلاد بأكملها باتجاه الديمقراطية والاستقرار والوحدة الوطنية•

ثانياً استمرار الاحتلال العسكري إلى أمد غير محدود، تشبثاً بأهداف وهمية مضللة• وغني عن القول إنه لن يكون في وسع الولايات المتحدة دعم هذا الاستمرار اعتماداً على الشعارات المجردة الخاوية، من شاكلة ’’جعل العراق جبهة مركزية للحرب العالمية المعلنة على الإرهاب’’•

وفي اعتقادي الشخصي أن في انسحاب الولايات المتحدة عسكرياً من العراق خلال العام الحالي ،2006 ما يمثل الخيار الواقعي والعملي والممكن في آن• ففي الانسحاب ما يسحب البساط من تحت أقدام التمرد العراقي، ويعجل بمقاتليه إلى المشاركة في العملية السياسية، مخافة أن يستأثر التحالف الشيعي-الكردي وحده بمقاليد السلطة والحكم هناك• كما يرجح أيضاً أن يكون ثمة وجود عسكري أميركي في المنطقة وفي المناطق الكردية، مما يوفر صمام أمان ضد أي تصاعد مفاجئ لنفوذ التمرد على توازن القوى السياسية في العراق أو في المنطقة ككل• كما تسهل الانسحاب العسكري ووضع حد للاحتلال الأميركي القائم الآن، مشاركة الدول العربية والإسلامية نفسها ببعض القوات في عملية حفظ السلام، مما يكون له أثر إيجابي في انحسار نزعة الكراهية لأميركا الطاغية على المنطقة في ظل الاحتلال الحالي•