النهار, سليم نصار

منذ حرب 1948 لم يظهر على الساحة الاسرائيلية قائد عسكري استطاع ان يحقق بواسطة قوة السلاح ما حققه ارييل شارون.

ومنذ تلك الحرب لم يعرف الفلسطينيون والعرب مسؤولا اسرائيليا آخر استطاع مجاراة شارون في عمليات الابادة الجماعية والتدمير الشامل. لذلك اطلقت عليه الصحف لقب "البلدوزر" الذي يسحق في طريقه كل من يقاومه او كل ما يعترض سبيله، في حين وصفه الساسة والمعلقون العرب بعد "مجزرة صبرا وشاتيلا" بـ"دراكولا" او مصاص الدماء "فامباير". ودليلهم على ذلك عشرات الاحداث الدموية التي قدمها في مذكراته منذ التحاقه بصفوف "الهاغانا" قبل ان يبلغ الخامسة عشرة من عمره. وقد سجل باعتزاز في مذكراته اول مهمة امنية أسندت اليه عام 1953 وكانت بفضل راعيه ومثله الاعلى ديفيد بن غوريون، اول رئيس وزراء لدولة اسرائيل. واقتصرت المهمة على رصد عمليات التسلل التي يقوم بها الفلسطينيون عبر الشريط الحدودي المتاخم للأراضي الاردنية. وعلى رغم صغر سنه فقد عينه بن غوريون قائدا لوحدة الكومندوس 101 التي تشرف على مراقبة تطبيق القرار المتعلق بهدنة 1949.

واستغل شارون نفوذه كي يثبت لرئيسه أنه جدير بتحمل مسؤولية حماية حدود الدولة الجديدة. وللرد على مقتل امرأة اسرائيلية وطفليها، امر القائد الشاب بعملية انتقامية ضد سكان قرية "قبية" التي دمرت منازلها وقتل من اهليها العزل اكثر من 69 شخصا. وبعد ان دشن شارون مهمته بهذه المجزرة، امر ايضا بنسف منازل قريتي "حوسان" و"شرافات" مدعيا انهما تمثلان خطرا محتملا لكونهما تقعان قرب خط الهدنة.

هذا الخط السياسي الذي مارسه شارون طوال نصف قرن تقريبا، اعترضت صحيفة "هآرتس" عليه اخيرا، خصوصا انه يطبّق من غير رخص قانونية. وكتبت اسرة تحرير الصحيفة افتتاحية جماعية نشرت صباح يوم الاربعاء الماضي(4 الجاري) تطالب الحكومة بضرورة وقف اشغال البلدوزرات في قرية "بلعين" الفلسطينية. كما تطالب رئيس محكمة العدل العليا بتنفيذ قرار لجنة التخطيط والبناء التي اصدرت امرا بوقف كل عمل غير قانوني، ثم تبين للصحيفة ان استئناف اعمال مصادرة الاراضي واقتلاع اشجار الزيتون انما تجري بموافقة شارون ووزير الدفاع شاؤول موفاز. واعلن رئيس الوزراء قبل يوم واحد من اصابته بالنزيف الدماغي، ان الضرورات الامنية تقضي بـ"اقامة مستوطنة فوق كل تلة". ومن دون ان يعتذر قال: "ان مشكلة قرية بلعين تتمثل في وقوعها على تلة مرتفعة وعلى خط جدار الفصل، وهذا وحده كاف لالغاء وجودها واقامة 520 وحدة سكنية اسرائيلية مكانها".

العقيدة الامنية الشارونية فرضت على صاحبها عام 1981 القيام بمغامرة عسكرية منعت صدام حسين من امتلاك قنبلة ذرية. وكانت تلك المرة الاولى في التاريخ المعاصر تُقدم دولة، عضو في الامم المتحدة، على استخدام قوتها النارية لارغام دولة اخرى على وقف نشاطها النووي. ويروي كتاب "دقيقتان فوق بغداد" ان وزير الزراعة ارييل شارون في حكومة مناحيم بيغن، هو الذي اقنع الوزراء خلال جلسة عاصفة، بأهمية تدمير المفاعل النووي العراقي (تموز).

وجاء في الكتاب الموثق ان شارون دافع عن وجهة نظره بالقول ان تردد الحلفاء في اغتيال هتلر شجعه على اطلاق شرارة حرب عالمية قضت على اكثر من خمسين مليون نسمة، اضافة الى ملايين اليهود الاوروبيين. وعرض في تلك الجلسة نظرية الضربة الوقائية او الاستباقية التي تبناها فيما بعد جورج بوش لتبرير هجومه على العراق، اي ضرب العدو قبل ان يكمل استعداده لضرب الولايات المتحدة. ويرى الرئيس بوش ان عملية ضرب المفاعل النووي العراقي قد تتكرر مع ايران اذا ما تأكد ان طهران لن ترضخ لقرارات مجلس الامن، ولن توقف بحوثها النووية.

مرة اخرى، استغل شارون نظريته الامنية بهدف فرض واقع جديد داخل لبنان يساعده على خلق نظام طائفي تتحكم به اقلية متعاونة مع دولته. وقد قادته اخطاء المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان، الى استقطاب رأي عام اسرائيلي ايده في مغامرته العسكرية عام 1982. كما ايده في الوقت ذاته وزير خارجية اميركا الكسندر هيغ الطامح في حينه الى دخول البيت الابيض. ولم يكن من الصعب اقناع مناحيم بيغن الذي رعاه دائما واعتبره بمثابة ابنه بالتبني، لأن ام بيغن كانت القابلة القانونية التي اخرجت ارييل الى الدنيا. وبخلاف كل التوقعات الوردية التي صورها شارون لمناحيم بيغن، انتهت تلك المغامرة العسكرية باجباره على الاستقالة من وزارة الدفاع.

وكان من المنطقي ان تساعد مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا التي ذهب ضحيتها اكثر من ثمانمئة لاجىء فلسطيني، على ادانته واخراجه من الحياة السياسية. ولكنه استعاد دوره بعد اغتيال اسحق رابين وفشل ايهود باراك وضياع كل الفرص الآيلة الى تحقيق اتفاق اوسلو. ومن هذه الانتكاسات خرج شارون ليجدد دوره في عملية اقتحام ساحة المسجد الاقصى. ومن هذه الساحة ايضا انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية لتعيد "الليكود" الى الحكم بدعم من الاحزاب الدينية المتطرفة، ومساندة ادارة جورج بوش.

ووظف شارون كل هذه الادوات الداخلية والخارجية ليحاصر بها ياسر عرفات ويأمر باغتيال زعماء "الجهاد الاسلامي" و"حماس" بمن فيهم الشيخ احمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي. كما وظف احداث 11 ايلول في نيويورك وواشنطن ليقنع الادارة الاميركية بأن تفكيك البنية التحتية لـ"الارهاب" الفلسطيني يجب ان يكون الثمن لاستئناف مفاوضات السلام. ولما عجز ابو عمار وخليفته محمود عباس عن تحقيق هذا المطلب، قرر شارون اجتراح حل منفرد لأنه لا يريد مشاركة السلطة الفلسطينية في رسم حدود الدولة العبرية. ومن هذا الحل بلور حدود اسرائيل الدائمة من طريق بناء جدار الفصل وازالة كل الآثار التي تركتها المفاوضات الثنائية بما فيها مفاوضات أوسلو.

ويستفاد من تشخيصه حجم الدولة الموعودة، انه تنازل عن حلم "اسرائيل الكبرى" لمصلحة الواقع الديموغرافي الذي يقلقه. ومعنى هذا انه اعطى موافقته المبدئية لحل قيام الدولتين، على ان تكون دولة اليهود في الجانب الغربي من جدار الفصل، بينما تقع دولة فلسطين في الجانب الشرقي. ويبدو انه تغلب على عقبة التواصل الجغرافي للمناطق الفلسطينية باستلهام نظام "البنتوستانات" في دولة جنوب افريقيا. وفي أحد لقاءاته مع محمود عباس اقترح عليه حفر انفاق تربط شمال الضفة بجنوبها على شكل الانفاق التي تربط "غوش عتصيون" بالقدس.

اما بالنسبة الى قرار فك الارتباط عن غزة، فقد استخدمه شارون كتنازل سياسي بهدف استكمال عملية ترسيم حدود الدولة، وتوريط مصر بضبط أمن 15 مليون فلسطيني. وكان هذا احد الاسباب وراء الموافقة على فتح معبر "رفح" ولو بمراقبة الاوروبيين الذين يفضل شارون استبعادهم عن ساحة التسوية.

إثر تعرّض ارييل شارون لجلطة حادة في الدماغ، تنافس قادة حزبه الجديد "كاديما" على استخلاص معاني المشروع الذي عرضه كبرنامج انتخابي. واختلفت الاجتهادات التي قُدمت لنائبه ايهود اولمرت لعله يهتدي بعناوينها البارزة الى صوغ قرارات تحقق طموحات القائد الغائب عن الوعي. واقترحت ادارة المستشفى اسماعه موسيقى "موزارت" لعل ايقاع الالحان توقظ احساسه النائم. ولكن نجله عومري قدم اقتراحاً طريفاُ خلاصته ان تنشر رائحة الشاورما في الغرفة لعل حاسة الشم توقظه اكثر من حاسة السمع. وفي رأيه، ان والده كان يستمتع بوجبة الشاورما والحمص اكثر من استمتاعه برائحة ازهار الربيع في مزرعته.

ويذكر محمود عباس واحمد قريع وصائب عريقات ان صحن الحمص لا يفارق مائدته حتى ولو كان ضيوفه من الاميركيين. ويبدو ان التساؤلات المتعلقة ببرنامج "كاديما" وصلت الى هنري كيسنجر باعتباره احد الذين استشارهم ارييل شارون قبل تسجيل خطته. وهو يتذكر ان رئيس الوزراء وضع اربعة عشر تحفظاً على "خريطة الطريق"، معتبرا ان دفع عملية السلام الى الامام (كاديما) لا يمكن ان يحصل الا اذا انتصرت السلطة الفلسطينية في معركة المنافسة ضد "حماس" و"الجهاد الاسلامي". في حين يقول ايهود اولمرت ان رئيسه طلب منه حصر شعارات انتخابات آذار بموضوع حل النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي. كما حدثه عن ضرورة تشجيع عملية الانسحاب من بعض مستوطنات الضفة الغربية، وعن اهمية الاحتفاظ بغور الاردن ومنطقة شمال البحر الميت. والسبب ان العامل الديموغرافي كان يسيطر على ذهنه ويشغل باله. لذلك رأى انه بالمستطاع استغلال الاراضي الزراعية في هاتين المنطقتين من اجل توطين مليون مهاجر يهودي، اضافة الى اهميتها الاستراتيجية لكونها تمثل خطوط الدفاع الفاصلة بين الدولة الفلسطينية والجبهة الشرقية.

الجانب الفلسطيني الذي تحدث مع شارون يقول ان غور الاردن لم يأت ذكره كمنطقة اسرائيلية بعد ترسيم الحدود بعكس الكتل الاستيطانية الكبيرة. ويؤكد هذا الاستنتاج البرنامج الذي نشر منذ مدة قصيرة، وفيه يشير شارون الى ان جدار الفصل يشكل الحدود السياسية لدولة اسرائيل. وهذا يعني التنازل عن كل ما هو موجود شرق الجدار. والدليل على ذلك ان الجيش بنى قاعدتين حدوديتين، واحدة جنوب الغور والاخرى شماله.

في حديثه لصحيفة "هآرتس" ادعى ايهود اولمرت انه هو الذي اقنع شارون العسكري بضرورة الانسحاب من غزة لاسباب سياسية. وهو في هذا السياق مصرّ على اجراء تسوية مع الفلسطينيين ترضي الادارة الاميركية التي عرضت "خريطة الطريق" من دون ان تذكر اين تقع حدودالدولتين. ومن المؤكد ان اولمرت سيأخذ في الاعتبار نتائج الانتخابات الفلسطينية المقررة يوم 25 من هذا الشهر. وهذا ما تنتظره واشنطن ايضاً كي تعرف ما اذا كان اولمرت سيكمل رقصة "التانغو" – اي المفاوضات الثنائية – مع محمود عباس، ام ان النتائج ستتركه يرقص وحيداً كما فعل شارون؟