النهار ، نقولا ناصيف

الرياض عرّاباً على خط استقرار لبنان والتحقيق الدولي

كل الاتفاقات التي أرّخت محطات مهمة في تاريخ لبنان في العقود الاربعة الاخيرة حرباً وسلماً، صُنعت في الخارج: اتفاق القاهرة (1969) و"الوثيقة الدستورية" (1976) واتفاقات جنيف ولوزان (1983 و1984) والاتفاق الثلاثي (1986) واتفاق الطائف (1989)، الى عشرات من "اتفاق دمشق" تارة بين اركان الحكم اللبناني وطورا بين الافرقاء اللبنانيين حلفاء سوريا. اما عرابو هذه الاتفاقات فثلاثة تناوبوا على الاضطلاع بوساطات متفاوتة هم مصر وسوريا والسعودية. كانت القاهرة العراب في الخمسينات والستينات، ودمشق من السبعينات حتى السنة الفائتة، والرياض في بعض الحقبات وهي اليوم تستعيد هذا الدور بحرارة مشابهة لمرحلة الاعداد لاتفاق الطائف. اكتفت سابقاً بدور وسيط سلّم بالدور السوري في لبنان، فلم تكن ثمة مبادرة سعودية حياله لا تمر بالعاصمة السورية. وفي الغالب كانت تواجَه بضغوط وقيود سورية لتعطيلها وترك لبنان في القبضة السورية وحدها.

تغيّرت الأيام وباتت سوريا خارج لبنان، وفريقاً متهماً في النزاع مع هذا البلد وفي الوقت نفسه في مواجهة حادة مع المجتمع الدولي. وانتقل دور العراب، للمرة الاولى، طليق اليدين الى المملكة التي تدخل الى لبنان سياسيا. بل الاصح ان الافرقاء البارزين انتقلوا اليها او يكادون. لذلك كثر الحديث في كانون الاول الفائت عن "اتفاق الرياض" ثم هذا الشهر عن "اتفاق جدة"، وعن وساطة بين لبنان وسوريا.

في واقع الامر اضطلعت المملكة بوساطتين متوازيتين: اولى بين فريقي الائتلاف الحكومي تولى السفير في بيروت عبد العزيز خوجة ادارة قسط منها، وثانية بين لبنان وسوريا من اجل وقف المواجهة المفتوحة بين البلدين. ومع ان اصداء عدة في فريق قوى 14 آذار رددت تحفظات عن جانب من الوساطة السعودية، ولاسيما منها الشق الذي يفك العزلة العربية عن القيادة السورية، فانها وازنت بين تحفظها هذا وابداء تقديرها لجهود الرياض. وحتى 8 كانون الثاني كانت ابواب المملكة موصدة تماماً في وجه الرئيس السوري بشار الاسد رغم جهود كان قد بذلها للاجتماع بعاهلها المستاء من اكثر من اشارة غمز من خلالها الاسد ضمناً قناة الرياض وهو يشن حملاته على كل من رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، ورئيس الغالبية النيابية النائب سعد الحريري.

واستناداً الى معلومات مستقاة من مصادر ديبلوماسية عربية، فان ما حدث في 8 كانون الثاني كان ذروة الوساطة السعودية عندما حمل وزير الخارجية الامير سعود الفيصل الى الرئيس السوري ثلاثة مطالب، في اطار ما اعتبرته الرياض، وابلغته الى الرئيس الفرنسي جاك شيراك، انه لا يمكن العلاقات اللبنانية - السورية ان تستمر على نحو كهذا من التوتر واعمال العنف والاغتيالات والحملات الاعلامية المتبادلة، ولكن من غير ان يعكس ذلك اتهاماً مباشراً لدمشق بمسؤوليتها عن هذه الاغتيالات. بدا المطلوب اولاً حلّ المشكلة لا توجيه الاتهام.

اما المطالب الثلاثة فهي:

 التعاون غير المحدود مع لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

 وقف التدخل في الشؤون اللبنانية والعمل على وضع حد لدورة العنف في لبنان بعد مسلسل الاغتيالات. وهي اشارة ضمنية الى مسؤولية سورية عنها.

 ان الرياض على استعداد للوقوف سداً في مواجهة اي محاولات لزعزعة الاستقرار في سوريا، شرط الموافقة غير المشروطة على البندين الاولين.

وذهب الاسد الى جدة فوراً لترجمة موافقته حاملاً كذلك مطلباً سورياً الى المملكة هو المساعدة على وقف الحملات الصادرة عن فضائيات وصحف تتأثر بالرياض. وكانت هذه اشارة الى ما ادلى به النائب السابق للرئيس السوري المنشق عبدالحليم خدام في 30 كانون الاول الماضي الى قناة “العربية” السعودية. في الحصيلة، انكفأت حملة خدام في قسم من الاعلام العربي. وربما وقع في السياق نفسه الاحجام عن بث مقابلة في قناة "العربية" السعودية لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الذي يقود حملة على نظام الاسد.

ومع وفرة ما تردد في بيروت عن تنسيق غير معلن بين المملكة وفرنسا يتصل بالوساطة التي تقودها الاولى، فان مصادر ديبلوماسية غربية واسعة الاطلاع وضعت موقف الرئيس الفرنسي جاك شيراك في منحى مواز لما تقول به الرياض. وهو ما عكسه للرئيس المصري حسني مبارك في اجتماعهما في باريس في 5 كانون الثاني وما ابلغه شيراك ايضاً الى وزير الخارجية السعودي في 9 منه، وهو الآتي:

 على سوريا التعاون مع لجنة التحقيق الدولية عملاً بما ينص عليه القرار 1636.

 على سوريا وقف التدخل في لبنان واي محاولة لزعزعة استقراره، كما ان سيادة لبنان واستقلاله وضمان امنه تشكل اولوية في السياسة الخارجية الفرنسية.

 ليس لدى باريس اي هدف لتغيير النظام في سوريا او زعزعة استقرارها. وهي اجابة تشير الى ان مصير النظام السوري لا يدخل في نطاق الاولويات الفرنسية.

والواضح ان المسار الذي سلكه الشق الاقليمي من الوساطة السعودية، بدا اقرب الى ابصار النور اكثر منه الشق المحلي المتعلق بانقاذ الائتلاف الحكومي من الانهيار وبعث الحياة مجدداً في حكومة السنيورة. مع ان بعض المعلومات تحدث في الساعات الاخيرة عن التوصل الى اتفاق بين طرفي النزاع يكرّس ما كان اتفق عليه في "اتفاق الرياض" الاول، على ان يُترك للحريري تسويقه لدى حلفائه، وهو تفاهم يحظى في اي حال برضى سعودي يمكنه من تذليل العراقيل.

الا انه يقود الى تعويم التحالف الرباعي المنبثق من انتخابات 2005. وهو الخيار الوحيد لفريق الغالبية النيابية ما دام متمسكا بصيغة الائتلاف الحكومي الحالي لعجزه عن ابدال الوزراء الشيعة الخمسة بآخرين، ولأنه يرفض في الوقت نفسه البحث في اي صيغة حكومية جديدة ستجرده حكماً من امساكه بغالبية ثلثي المقاعد.