آصف قزموز - رام الله

عندما يعزّ الرجال في زمنٍ كبيس، وتتصابى ديمقراطيات العولمة وحرياتها ، لتتأبّط شرّاً فيحطُّ لها عصا الطاعة كل من المارق والخَسيس ، وتوزّع القيم والأخلاق الممهورة على مذابح الحريات المقهورة، فلم يعد أصل للصوت باقياً ولا ملامح للصورة. وفي زمن اليباس والسكوت، وحين تسقط عن العورات ورقة التوت، تتجلّى فينا حقاً مقولة: "علقة تفوت ولا حد يموت". تجثو الكلمات المهاجرة من ظلم الحكام والنظم بقيمها السافرة، في زحمة الموت ما بين وا إسلاماه ووا معتصماه، فلا الطير طليقاً كطيف النسيم ولا حرّاً يرفرف في سماه. تدرك عندها أنك في زمن الأفول والوحول واستعصاء الحلول مع الوعول، وهروب الضحية نحو المجهول، بعد جرحٍ في القلب دامٍ وخِتانٍ للعقول.

فبعيداً عن صدقية أو عدم صدقية ما تردّد مؤخراً، من شائعات حول إطلاق سراح الدكتورة العراقية هدى صالح مهدي عمّاش وزميلتها الدكتورة رحاب طه، المعتقلتين لدى القوات الأميركية على أرض العراق بتهمة ارتباطهما ببرنامج تطوير الأسلحة البيولوجية في عهد الرئيس صدام حسين، إلاّ أن اللافت هو أن هاتين السيدتين، اللتين تقبعان في سجون الاحتلال الأميركي في أسوأ الظروف اللاإنسانية منذ حوالي ثلاث سنوات، تحت وابل كثيف من التعبئة والتحريض المعادي، وستار صمت القبور الذي يكلّل منظمات حقوق الإنسان، والمنظمات النسوية الناسية لدورها الإنساني، العربية منها وغير العربية إن لم نقل جميعها، خصوصاً أن الدكتورة عمّاش تعاني من مرض سرطان الثدي الذي تصارعه في ظروف بالغة القسوة والانتهاك دون التفاتة من أحد.

وإذا كانت الحكومات قد وجدت لنفسها ملاذاً وذرائع كافية للاستظلال وتبرير القصور في هذا المقام، فإن من حق هاتين السيدتين العربيتين أن تعتبا على الحركات والمنظمات، خصوصاً النسوية منها، التي لم تنبس - حتى الآن - ببنت شفة، انتصاراً لقضيتهما الإنسانية البحتة والبعيدة كل البعد عن السياسة.

ولا أظن أن هناك جناحاً على أحد إذا ما انتصر لحرية هدى وحقوقها الانسانية، في الوقت الذي نشهد فيه منظمات حقوق الانسان على امتداد الغرب والشرق، تنادي بحريات وحقوق الممرضات البلغاريات المتهمات بحَقَنّ الأطفال الليبيين بفايروس الايدز، خصوصاً ان "حقوق الانسان وحرياته" باتت شعاراً رائجاً تُخاض باسمه الحروب العابرة للقارات. ولعلّ عراق هدى مهدي عماش هو الذي يدفع اليوم ثمناً باهظاً لهذه الحروب، وحقوق المرأة العراقية والانسان العراقي من المفترض أنها في قلب حقوق الانسان وحرياته التي لا تنفصل ولا تتجزأ.
كم هو محزن ومؤلم لكل الغيورين والشرفاء من أحباب الحرية الحقّة والديمقراطية الحقّة، حين لا يرتقي مستوى تحرك ورد فعل المنظمات النسائية العربية مثلاً، لذات المستوى الذي كانت تتحرك به تلك المنظمات في مواسم الحجيج الى بغداد ابان العصر الذهبي لعراق هدى وزميلاتها اللواتي توارين عن الأنظار منذ الاحتلال الحديث للعراق.
كيف لا، ووالدها صالح مهدي عماش، سليل الحركة القومية العربية وجيل عبد الناصر، الذين تعرضوا للأذى والملاحقة بسبب مواقفهم الوطنية والقومية، وعرفوا كشخصيات قومية وناصريين لهم تاريخ وباع طويل في الحركة القومية العربية وفي دعم تأميم قناة السويس والوحدة مع سورية، والتصدي للعدوان الثلاثي، وتجاه فلسطين حدّث ولا حرج.

يجب أن لا ننسى أبداً، ان الدكتورة عماش، التي ورثت عن والدها الفكر القومي التحرري، قد استطاعت بجدارة، أن تبرهن للعالم، بأن المرأة العربية لديها من القدرات ما يكفي ويزيد لاستلام الراية والمضي فيها قُدماً في مواقع متقدمة حتى عن الرجل.. بل ان الإعلام الغربي قد سلّط عليها الأضواء التي لم يسلطها على أي رجل على امتداد الوطن العربي الكبير، حتى باتت في أذهان العرب عنواناً للكبرياء والزُّهُوّ والكرامة العربية، وللمكانة التي يمكن للمرأة أن تتبوأها إذا ما أتيحت لها الظروف المناسبة.

فالمرأة العربية بمختلف انتماءاتها على امتداد الوطن العربي البليد، يجب أن تعرف بأن "جريمة" هدى عماش تكمن أولاً في كونها حافظت على كيانها كامرأة عربية تؤمن انه لا بد للأمة أن تمتلك ناصية العلم والتكنولوجيا، لكي تكون قادرة على حماية قضاياها والدفاع عنها ونصرة القضايا العربية، وفي مقدمتها فلسطين، وتؤمن بضرورة النهوض بكل مقومات الأمة العربية لاستخدامها وتوظيفها، ليس كرافعة للحرب كما حاولوا تصويرها، وإنما كرافعة من أجل تحقيق الأمن والسلام العادل للأمة، من خلال إحداث تعديل، ولو طفيف، في التوازن القائم، لا سيما في ظل حالة الاحباط والانكفاء العربي.

نعم، إنها امرأة من الجيل الثاني الذي ورث عن الجيل الأول إيمانه بالقضايا العربية ووحدة الأمة، وضرورة الارتقاء والنهوض بإمكاناتها واعتبار التقدم العلمي هو الأساس الصالح لهذا النهوض المنشود.

لا يمكن لأحد أن ينسى المسيرات الضخمة التي كان الاتحاد العام للمرأة العراقية ينظمها وهي تمخر عباب شوارع بغداد، نصرة لفلسطين ونساء فلسطين والمرأة العربية عموماً، فهي التي كانت تخرج الى الشوارع لتعبّر عن غضبها ودعمها لنساء فلسطين، وها نحن اليوم لا نكاد نسمع صوتاً واحداً على امتداد الوطن العربي، ولو من قبيل الأُخُوّة الانسانية، وليس من قبيل رابطة الدّم العربية التي برهن العراقيون على مرّ التاريخ، على صحتها، من صلاح الدين وحتى يومنا هذا، فهذا الصمت النسوي العربي مدان ومرفوض، لأن آلام هدى وأوجاعها ستظل أوجاعنا وآلامنا جميعاً، والوفاء لها أصبح اليوم مسألة انسانية بحتة ليس من حق أي عربي ما زال فيه عرق ينبض، أن يتنكّر لها ولقضيتها العادلة، التي هي قضيتكُن جميعاً.
فسواء أكانت لا تزال في السجن أم خارجه، فإن التعذيب والإهانة وامتهان الكرامة الإنسانية، الذي تعرضت له هدى في سجن أبو غريب، والذي لم يفلح في تحريك مَن توجّب أن يتحركوا لمؤازرتها، ينبئ بما لا يدع مجالاً للشك، بأن مَن هم في السجن ليسوا وحدهم الذين امتهنت كرامتهم، وإنما مَن هم خارج السجن أيضاً.

وسواء أكانت هدى مهدي عماش، أم جميلة بو حيرد، أم دلال المغربي وغيرهن كثيرات، فجميعهن ينتمين الى تراث هذا الوطن العربي الكبير، فلماذا لا تستنهض المرأة العربية دورها التاريخي، وتحمل شرف المسؤولية في قضية إنسانية كهذه؟! وذلك أضعف الإيمان.