بلال الحسن/الشرق الأوسط

تجري حاليا داخل العراق وخارجه مفاوضات غير رسمية بين قوات الاحتلال الأميركية في العراق من جهة، وأشخاص منتدبين من قبل المقاومة الوطنية العراقية المسلحة من جهة أخرى. وتتسرب بين الحين والآخر أنباء عن هذه المفاوضات، ولكن أجهزة الإعلام العربية والأجنبية تتجاهلها كليا، وينأى السياسيون الحاكمون في العراق عنها، فلا يعلقون عليها لا بالسلب ولا بالايجاب، بينما يعرف الجميع أن هذه المفاوضات أصبحت حقيقة واقعة.

تكشف المفاوضات عن أزمة الاحتلال، وعن عجزه عن السيطرة الأمنية، وعن حماية أنابيب النفط، كما تكشف عن أزمة الجهاز السياسي العامل مع الاحتلال، سواء عبر حكومة إياد علاوي أو حكومة الجعفري الحالية. وبالرغم من قلة المعلومات المتوفرة، إلا أن ما يتسرب منها يبين أن المفاوضات لا تزال في بدايتها، حيث يحاول كل طرف أن يجر الطرف الآخر إلى موقعه.

تنطلق خطة الأميركيين في المفاوضات من محاولة جر المقاومة الوطنية المسلحة نحو الانخراط في المشروع السياسي الأميركي واحتلال موقع قيادي فيه، ينهي المواجهة المسلحة من جهة، ويدعم الوزارات العراقية المشكلة من جهة أخرى، بحيث تستطيع النجاح في مهامها الإدارية والاقتصادية والأمنية. بينما تنطلق خطة المقاومين في المفاوضات من السعي إلى إنهاء الاحتلال، وترتيب وضع سياسي عراقي جديد يضمن وحدة وطنية يمكن من خلالها الوصول إلى التهدئة وبدء عملية البناء والتطوير.

وإذا حاولنا أن نستخلص بنود الخطة الأميركية من خلال استقراء الأحداث نستطيع أن نجد ما يلي:

أولا: إن الخطة الأميركية تنطلق مما تم عمله (الدستور والفيدرالية)، وتتطلع إلى تكميله، ويبرز هنا المفهوم الطائفي الذي تم اعتماده مع سعي لاستكماله عبر هذه المفاوضات، فإذا كانت السلطة قد سلمت للطائفة الشيعية (والأكراد)، فإن العرض الأميركي الأساسي يتلخص في إغراء الطائفة السنية بانه سيكون لها أيضا دور أساسي في الحكم. وبناء على هذه القاعدة يجري الحديث عن إنشاء مجلس جديد في موازاة البرلمان المنتخب، يسمى مجلس الشورى أو مجلس الشيوخ، وتتمثل فيه جميع الطوائف العراقية، ويكون له من الصلاحيات بما يطمئن الطوائف جميعا إلى مصيرها. وقد بادر إلى هذا الاقتراح وفد من مجلس الشيوخ الأميركي، واقترح «تشكيل سلطة سياسية عليا تعمل خارج نطاق الحكومة والبرلمان، ومهمتها تذويب الخلافات المطروحة».

ثانيا: تتعامل الخطة الأميركية مع المقاومة الوطنية المسلحة على أساس أنها مقاومة سنية، أي مقاومة طائفية وليست مقاومة وطنية، وتعرض عليها من هذا المنطلق أن تتولى السيطرة على الأدوات الأمنية في المناطق السنية، وصولا إلى الهدوء والسيطرة وتوقف العمليات. وكما أباحت قوات الاحتلال لبعض المليشيات الشيعية والكردية أن تؤدي دورا بارزا في تشكيل قوات الشرطة أو وحدات الجيش في مناطق الشيعة والأكراد، فإنها تقترح على مندوبي المقاومة المسلحة أن تقوم بإدخال عناصرها إلى قوة أمن جديدة تتولى السيطرة في المحافظات السنية.

ثالثا: إذا تم الاتفاق على الخطوات السابقة (الاندماج في النظام) تقوم القوات الأميركية بالإفراج عن بعض المعتقلين، باستثناء قادة النظام السابق، ثم تلي ذلك محادثات سياسية مع قادة آخرين داخل العراق وخارجه، ويكون (مؤتمر الوفاق الوطني) الذي انعقد في القاهرة أواخر العام الماضي، وسينعقد مجددا في بغداد أواخر شهر فبراير (شباط) 2006، البوابة العراقية المعلنة لهذه المفاوضات.

تقابل هذه الخطة الأميركية، خطة تفاوضية عراقية أخرى، ترفض الاندماج في العملية السياسية الجارية، وتطلب بناء خطة سياسية عراقية جديدة تنطلق من مبدأ ضرورة إنها الاحتلال أولا. كما ترفض اعتبار المقاومة المسلحة مقاومة سنية، وتصر على تقديم نفسها على أنها مقاومة وطنية، تضم شيعة وسنة وأكرادا وتركمانا، وتضم علمانيين ومتدينين، وتعبر عن معارضتها للاحتلال بالعمل المسلح وبالمعارضة السياسية أيضا.

لم تزل هذه المفاوضات في بدايتها، وهي تقوم، كما رأينا، على وجهتي نظر متعارضتين بحيث يصعب التوفيق بينهما. وبينما يمتلك الطرف الأميركي وجهة نظر متكاملة، بدت بوضوح حاجة الطرف العراقي إلى امتلاك رؤية متكاملة مضادة، وتكون في الوقت نفسه رؤية عقلانية تستطيع مخاطبة الأميركيين برؤية دستورية وقانونية. وتستطيع في الوقت نفسه أيضا مخاطبة العراقيين انطلاقا من تحقيق مصالحهم وآمالهم في بناء عراق حر وديمقراطي وموحد وعربي ومستقل، وعلى أمل أن تستطيع وجهة النظر المتكاملة هذه كسب تأييد جماهير وقوى عراقية جديدة ومختلفة، وبحيث يصبح التحشيد السياسي حول هذا الموقف قوة ضاغطة على المفاوضات نفسها، وعلى الخطة الأميركية بداخلها.

وفي هذا السياق لا بد من استذكار أمرين؛ الأول هو المؤتمر العراقي الذي انعقد في بيروت في 25/7/2005، وأنجز اقتراح دستور عراقي جديد، كما قدم آراء جديدة في كيفية معالجة القضية الكردية، وقضايا إعادة بناء الجيش والاقتصاد، وكيفية التعامل مع الثروة النفطية العراقية. والأمر الثاني هو المبادرة التي أعلنها الدكتور خير الدين حسيب في 9/12/2005، من أجل وضع العراق على طريق إنهاء الاحتلال وبدء بناء سلطة عراقية جديدة، خاصة أن هذه المبادرة تم طرحها علنا «بعد التشاور مع القوى العراقية الفاعلة في مناهضة الاحتلال، ومع فصائل رئيسية في المقاومة العراقية»، وهو توصيف أزال عنها أية صفة شخصية.

إن هذين الأمرين، كما يبدو، لم يكونا عملا بحثيا لأغراض علمية فقط، إنما كانا مواكبة للأحداث السياسية الجارية، وفي المقدمة منها موضوع المفاوضات السرية، وهي أرادت أن تسلح الوفد العراقي المفاوض بأوراق عمل متكاملة تمكنه من إدارة المفاوضات بكفاءة واقتدار. وحتى لو فشلت المفاوضات، فإن أوراق العمل هذه ستشكل نواة لبرنامج سياسي شامل للمقاومة الوطنية المسلحة، وسط حديث متواتر عن غياب مثل هذا البرنامج.

المؤتمر العراقي الذي انعقد في بيروت، بضيافة «مركز دراسات الوحدة العربية»، وحمل اسم «مستقبل العراق»، ضم 108 شخصيات، جاء 66 منهم من داخل العراق، وجاء 48 شخصا منهم من المُغتَرَبِ. وكان من أبرز أعماله إنجاز مشروع جديد لدستور عراقي يكرس فكرة عروبة العراق، ويكرس وحدة أراضيه وفكرة المواطنة في مواجهة فكرة التقسيم الطائفي، ويكرس حقوق الشعب الكردي في (إقليم كردستان) المكون من ثلاث محافظات، إنما على قاعدة اللامركزية بدلا من قاعدة الفيدرالية،

و«يعتبر الإقليم وحدة إدارية متكاملة في إطار الوحدة القانونية والسياسية والاقتصادية للعراق». ويكون النظام الديمقراطي هو الضمانة لتنفيذ كل ذلك. وتم الإعلان بوضوح أن هذا الدستور هو لمرحلة ما بعد التحرير، ويعني هذا أنه لا يعترف بالتغيرات التي أقامها المحتل.. ويعتبرها باطلة ولاغية.

أما المبادرة التي أعلنها الدكتور حسيب، فتقوم على قاعدة إعلان جيش الاحتلال عن استعداده للانسحاب خلال فترة زمنية لا تزيد على ستة أشهر، مقابل إعلان المقاومة الوطنية العراقية وقفا لإطلاق النار، على أن يتم الاتفاق من خلال مجلس الأمن على اختيار رئيس لمجلس الوزراء لفترة انتقالية لا تزيد على سنتين، يتكون خلالها جيش عراقي جديد يكون بعيدا عن السياسة والحزبية.. الخ.

إن هذه الوقائع التي لم تحظ باهتمام إعلامي عربي، تظهر صورة للواقع العراقي، يعترف فيها الاحتلال الأميركي بأزمته، حتى أنه يقبل مفاوضة الخصوم. ويبرز من خلال هذه المفاوضات وزن المقاومة الوطنية العراقية المتزايد، كما يبرز في المقابل الضعف والوهن في الأدوات السياسية التي اعتمدها الاحتلال، حتى أنه بدأ يبحث عن حل خارجها.

ورغم ذلك، نقول إن ما يحدث هو حتى الآن مجرد مشاورات، ولم تصل الأمور بعد إلى درجة الحديث عن منتصر أو مهزوم، وهي لم تزل بعيدة عن الوصول إلى اتفاق. والأهم من ذلك أن هذه التطورات تضع الحدث العراقي في منظور جديد يختلف كليا عن المنظور الإعلامي الذي يروج له الاحتلال، وهو منظور آن للإعلام العربي أن يلتفت إليه، قبل أن تسبقه الأحداث ويصبح متخلفا عنها.