محمد سيد رصاص/الحياة

عندما وصل مدُ القومية العربية إلى ذروته في وحدة عام 1958، انصبَ تفكير رئيس الوزراء الاسرائيلي دافيد بن غوريون،من أجل كسر الفعالية العربية، على انشاء تحالف مضاد مع دول الجوار للعرب، في ايران وتركيا واثيوبيا.

نجحت تلك السياسة الاسرائيلية مع شاه ايران. من خلال ذلك، ظنَ الكثير من العرب بأن سقوط الأخير سيؤدي إلى احداث توازن جديد ضد اسرائيل، بعد شهور من اتفاقات كامب ديفيد، بخاصة بعدما أعطى الامام الخميني إشارات رمزية، مثلما جرى لما قدم مبنى السفارة الاسرائيلية إلى ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في طهران .

بدلاً من هذا، خاب أمل العرب المراهنين على طهران الخميني، اذ أدى توتر العلاقات مع العراق إلى انهيار التقارب السوري - العراقي بعد شهور قليلة من سقوط الشاه،في ظل تعاكس سياستي بغداد ودمشق حيال طهران، وهو التقارب الذي أمل منه الكثير من العرب التعويض عن غياب القاهرة، فيما أدى نشوب الحرب العراقية - الايرانية إلى شل فعالية العراق العربية، وإلى توترات ايرانية كبرى مع دول الخليج، وهو ما قاد في المحصلة إلى نشوء فراغ، في شرق المتوسط ، حاولت اسرائيل ملئه عبر اجتياح صيف 1982، الذي سبقه بأيام بداية الهجوم الايراني المضاد على العراق، بعد سياسة دفاعية انتهجتها ايران منذ بداية الحرب في أيلول (سبتمبر) 1980.

لم يكن ما آلت إليه أوضاع العراق من خراب وأزمات، نتيجة تلك الحرب، بعيداً عن تشكيل مجموعة الظروف والمناخات التي قادت صدام حسين إلى الحماقة المتمثلة في غزو الكويت. في المقابل، لم تمارس ايران سياسة نسيان الماضي أثناء حرب 1991، وإنما كان سلوكها معاكساً، عندما احتجزت الطائرات العراقية اللاجئة إليها، وحاولت استغلال ظروف هزيمة العراق العسكرية من أجل انشاء حقائق سياسية عراقية داخلية جديدة موالية لها عبر أحداث آذار (مارس) 1991 في جنوب العراق، وهي سياسة لم تضعها ايران وراءها حتى بعد سياسة بيل كلينتون في «الاحتواء المزدوج» لبغداد وطهران، وإنما استمرت عليها حتى استطاعت جعل هذا الاحتواء الأميركي منفرداً لبغداد منذ عام 1999، ثم اتجهت إلى التعاون مع واشنطن ضد صدام وإلى دفع القوى العراقية الموالية لها إلى ذلك، لما اتجهت الولايات المتحدة إلى غزو العراق عقب 11 أيلول، وهو تعاون تواصل على مدى السنوات الثلاث التي أعقبت سقوط بغداد، شهد العراق خلالها توترات بين الشيعة والسنة لاسابق لها منذ أيام الصفويين ومحاولتهم غزو العراق، ولا يمكن لأحد انكار حقيقة ارتباطها بالأجواء العامة التي عمَت العالم الاسلامي بعد صعود الخميني، الذي لم يستطع (هو وخلفاؤه) أن يحرر مشروعه السياسي الاسلامي، في أذهان الكثير من المسلمين، من البعدين الشيعي والفارسي.

في ظل الظروف العامة التي أعقبت سقوط بغداد، والتي شهدت ذروة التعاون الأميركي –الايراني في العراق، أقدمت طهران، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2003، على خطوتين كبيرتين في اتجاه واشنطن: وقف برنامج تخصيب اليورانيوم، والاعتراف بمجلس الحكم الذي كان يرأسه الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر. لكنها، في عام 2005، وبعدما اطمأنت إلى الفوز الإنتخابي للقوى العراقية الموالية لها، وفي ظل الصعوبات الأميركية التي نبعت من وسط العراق وغربه وليس من أمكنة أخرى، نراها تتجه إلى استئناف برنامجها في تخصيب اليورانيوم، وسط مؤشرات تدل على اقترابها من اليوم الذي ستصبح فيه دولة نووية، وهو ما ترافق مع انتصار المحافظين الايرانيين في انتخابات الرئاسة وقبلها في انتخابات البلديات والبرلمان.

في الشهور الماضية، لم تلمس سياسة واضحة عند العرب حيال ذلك، لا على المستوى الرسمي ولا حتى على مستوى الصحافة العربية التي لم تدخل في نقاش جدي للموضوع، فيما هناك انشغال أميركي – أوروبي (وكذلك اسرائيلي وتركي) بالموضوع ، فيما انتهجت موسكو سياسة الغموض، وربما الإزدواجية.

وينبع ذلك من احساس عربي عام بأن انفرادية اسرائيل النووية ستُكسر عبر طهران، مستندين إلى القلق الإسرائيلي من المشروع النووي الايراني. كما أن الكثير من العرب يعتقدون بأن مقاومة «حزب الله» لاسرائيل هي انعكاس صافِ للسياسة الايرانية، ويساهم في هذا الظن الدعم الايراني لمنظمتي «حماس» و»الجهاد» في فلسطين.

ولا يأخذ هؤلاء في اعتبارهم بأن الأسباب الوطنية اللبنانية، والعروبية، وكذلك الدعم السوري الذي احتاج إلى ورقة جنوب لبنان،هي الأساس في جعل شيعة لبنان رأس حربة وقلب مقاومة اسرائيل بين عامي 1982 و2000، ما جعلهم في وضعية مختلفة عن شيعة العراق عام 2003(و1991)، وليست الأسباب الايرانية التي تلاقت مصالحها في العامين المذكورين مع العوامل والميول المحلية عند شيعة العراق، فيما رأت طهران مصلحتها في أن تصبح طرفاً فاعلاً في الصراع العربي - الاسرائيلي عبر «حزب الله»، بخاصة بعدما رأت منذ «مؤتمر مدريد» أن تسوية ذلك الصراع ستكون عاملاً أساسياً في رسم ملامح المنطقة، ما جعلها حريصة على الإمساك بتلك الورقة ولو بالشراكة مع سورية.

من جهة أخرى، لم يطرح أحد من العرب للنقاش، حتى الآن، مخاطر الثنائية النووية، المتوزعة بين تل أبيب وطهران، على العرب، اذا وصلت ايران إلى القنبلة: ألن يكون وضع العرب، حينئذ، مثل وضع الأوروبيين بين موسكو وواشنطن خلال الفترة الفاصلة بين عامي 1945 و1989؟. وبكلام آخر: ألن تكون المنطقة العربية موضوعاً لتقاسم النفوذ بينهما، بخاصة اذا استمرت المصاعب الأميركية في العراق ووصلت إلى مرحلة الفشل، فيما سيؤدي وصول طهران للقنبلة إلى جعلها رقماً صعباً ستضطر أميركا أمامه الى عقد الصفقات معها في العراق (وربما أيضاً في مناطق عربية أخرى غير العراق) إذا استتب الأمر للأميركيين، بخاصة مع وجود قوى عراقية موالية لطهران ترى مصلحتها في المشهد العراقي الجديد الذي نشأ عقب الغزو الأميركي؟.

تنشأ، الآن، مع التوتر الأميركي المتصاعد مع ايران فرصة لقوى الفعالية العربية المتمثلة في مثلث (الرياض – القاهرة - دمشق) الذي أُعيدت الحرارة إليه أخيراً. وهذا لا يمكن أن يتم إلا بأخذ العواصم الثلاث مواقف في العراق شبيهة بما أخذته طهران عام 2003بالترافق مع موقف مضاد للبرنامج النووي الايراني، تكون متزامنة مع التوتر الأميركي –الايراني، وهذا ما سيؤدي إلى عزل ايران عراقياً، وإلى كسر الإنفراد الأميركي هناك عبر المشاركة العربية في رسم ملامح العراق المقبل، فيما يمكن أن لا يقتصر دفع الفواتير، في مقابل ذلك، على طهران، وإنما أن يمتد إلى اسرائيل أيضاً.