حازم صاغيّة/الحياة

تستطيع أكثرية اللبنانيين، ممثلةً بجمهور 14 آذار (مارس)، أن تدفع الأمور لمصلحتها حتى لو هبّت، بين فينة وأخرى، رياح دوليّة، أو إقليميّة، غير ملائمة. لكنها لا تستطيع ذلك إلا عبر بقائها، أولاً وأساساًَ، أكثريّة.

ففي منطق عملها تقارِب، أو ينبغي أن تقارِب، العمل الجبهويّ الذي يتطلّب من كل واحد من أطرافه ان يضبط حدّه الأقصى ويكيّفه مع معدّل وسطيّ يكون مقبولاً من الأطراف الاخرى. ومثل هذا السلوك الناضج ليس نادراً، حيث نقع عليه في معظم ما صدر، ويصدر، عن قادة لبنانيين كرئيس الحكومة فؤاد السنيورة وقائد «القوات اللبنانيّة» سمير جعجع. فهذان تصرّفا، منذ تشكيل الأوّل حكومته وخروج الثاني من زنزانته، تصرّفاً عاقلاً وموزوناً يأخذ في اعتباره سائر الحلفاء ومصالحهم وتطلّعاتهم.

لكن استقرار صيغة كهذه لا يزال يصطدم بعقبة يجسّدها قطبان آخران أساسيّان في 14 آذار، هما زعيم «الحزب التقدمي الاشتراكي» وقائد «التيّار الوطني الحر».

صحيح ان العقبة تلك شهدت، في الأسبوعين الماضيين، تذليلاً جزئيّاً، بيد ان تذليلها الفعلي والمقنع والباعث على الاطمئنان يستدعي درجةً أكبر من تعالي وليد جنبلاط وميشال عون، ومن إدامة تعاليهما. فلا الشخصيّ - والمزاجيّ في عداده - ولا الطائفيّ، ينبغي لهما، في هذا الظرف تحديداً، ان يحرزا الأولويّة على الوطنيّ. وهذا ليس من قبيل الوعظ التبشيريّ، إذ يرتكز على حقيقتين، إحداهما أن الوطني، في تعريفه اللبناني، لا يستطيع إلاّ ان يراعي الشخصيّ والطائفيّ، والثانية أن الوطنيّة اللبنانيّة، اليوم، ليست موقفاً ورأياً بل اتّقاء جماعي لموت جماعيّ.

ولنقل، بصراحة أكبر، ان ما قد يُقدم عليه ميشال عون الآن هو الذي يؤسس جدارته، أو يقوّضها، في الوصول الى رئاسة الجمهورية. والشيء نفسه يصحّ في وليد جنبلاط وفي عبوره من زعامة الطائفة الى زعامة الجبل فالزعامة الوطنيّة. فمن دون انتقاص مما قدّمه الإثنان للقضية الاستقلالية، كلٌ بطريقته، يبقى ان القضيّة المذكورة لا تزال في وسط الطريق ولن يكتمل الحكم على رموزها إلا بالوصول بها الى آخر النفق.

ولئن كان من علامات تخلّفنا، مجتمعاً وسياسة، أننا لا نملك الرأي العام الضاغط على سياسييه، أكان في الوطن ككلّ أم في الطوائف طائفةً طائفةً، فنحن نملك التحديات الضخمة، أكانت على شكل اغتيال وعبوات، أم على شكل تمدّد «قاعديّ» نحو لبنان، أم في هيئة تهريب أسلحة من البرّ والبحر، أم في انتشار أسلحة تزخر بها المخيّمات وغير المخيّمات، أم، أولاً وأخيراً، بقاء السلطة البائدة (؟) ورئيسها القادر على الكبح والتعطيل. والتحدي الذي يتحول، يوماً بيوم، مركزياً وحاكماً هو ذاك الإيراني الآيل الى ربط لبنان بقضايا لا ناقة له فيها ولا جمل. ذاك ان النهاية المنطقية لسلوك المجموعة الحاكمة في طهران اشتمال المنطقة كلها بدائرة رعب، يكون لبنان، من داخلها، النقطة الأشدّ رخاوة وهشاشة. وهكذا، بدل الإعداد للانسحاب التدرّجي من مواجهات تضمر وتذوي، يُقحم اللبنانيّون في مواجهة صاعدة خطيرة لا مكان معها لا لميشال عون ولا لوليد جنبلاط، لا لحساسيّاتهما ولا لطموحاتهما.

وغنيٌّ عن القول إن السلاح الذي يملكه اللبنانيون هو ان تبقى أكثريّتهم أكثريّة، وأن تكون مُستدامة. فالنجاح، هنا، لا يسهم فحسب في إحباط التحديات، بل يمهّد لنجاح أوسع يمكن التعويل عليه لاجتذاب أصوات شيعيّة متردّدة أو متذمّرة، وهي كثيرة. ولمثل هؤلاء يُعطى ما قد تأخذه أكثريّة مُستدامة من قوّة حزبيّة تتداخل لديها السياسة بالسلاح، والداخل بالخارج، والرأي بالابتزاز.