شاكر النابلسي/ايلاف

أولا:
لا يستطيع محمود عباس من خلال موقعه السياسي، أن يقول الحقيقة التي يعرفها جيداً، ونعرفها نحن من غير السياسيين الذين لا نعرف استعمال اللغة الديبلوماسية التي يتكلم بها عباس، ولا نعرف لغة وزراء الخارجية العرب أو أمناء الجامعة العربية، التي يتكلم بها معظم المعلقين السياسيين والكتاب السياسيين في العالم العربي. ولكننا ككتاب ومثقفين ليبراليين لا نعرف غير لغة الحقيقة الشجاعة فقط. وهي أن المبرر لانتهاء التهدئة ، التي لم تكن قائمة أصلاً، ورفض تجديدها أو التشدد في تجديدها، هو نتيجة حتمية وواضحة للمستجدات السياسية الإقليمية التي طرأت على المعادلات السياسية التالية في منطقة الشرق الأوسط، والخاصة بسوريا بالدرجة الأولى، التي تعتبر الراعي الرسمي للألعاب الارهابية والانتحارية العربية:

- أن سوريا في وضع سياسي حرج الآن، وقد فقدت موقعها كـ "قوة اقليمية عظمى" – كما كانت تدّعي، وبفضل جهاز مخابراتها القوى الذي ورثته عن المانيا الشرقية – وهي تحاول عن طريق إلهاب جنوب لبنان – غزة، أن تستعيد بعضاً من دورها الاقليمي الذي افتقدته.

- أن سوريا "العظمى" حاولت تركيع أمريكا العظمى في العراق، ولكنها لم تستطع. وكما قال عبد الحليم خدام في مقابلته مع فضائية "العربية"، فقد انتظرت سوريا أمريكا أن تأتيها راكعة على باب القصر الرئاسي السوري، طالبة النجدة، وانقاذها من "المستنقع العراقي". ولكن شيئاً من هذا لم يتم. بل إن سوريا "العظمى" الآن هي التي تركع أمام "البيت الأبيض"، وتدق الأبواب العربية والغربية، ولا من مجيب. وسوريا "العظمى" الآن تحاول تركيع أمريكا العظمى عن طريق جنوب لبنان – غزة، وعن طريق بغداد- بيروت. ولعلكم تلاحظون، بأنه كلما ازداد الضغط الدولي - والأمريكي على وجه الخصوص على سوريا- زاد العنف والارهاب في بغداد وبيروت. وقد شاهدنا من قبل كيف تمَّ رفع وتيرة الارهاب في بيروت بعد قرارات محلس الأمن الخاصة بسوريا. وشاهدنا بعد مقابلة عبد الحليم خدام في فضائية "العربية" كيف تصاعدت الهجمات الارهابية في العـراق، بحيث قُتل وجُرح في يوم واحد (5/1/2006) أكثر من 373 عراقياً، ووقعت أكثر من 420 عملية ارهابية خلال اسبوع واحد.. الخ، رغم أجواء التهدئة التي نادى بها السُنّة بعد الانتخابات التشريعية العراقية. ولكن يبدو أن الاصلاحات السياسية الداخلية العراقية، لا علاقة لها بانخفاض وارتفاع وتيرة الارهاب في العراق. وأن وتيرة الارهاب تنخفض وترتفع حسب البارومتر السياسي السوري والإيراني، وحسب ضغط المطرقة الأمريكية وصلابة سندان مجلس الأمن والأمم المتحدة. باعتبار أن الارهاب في العراق ولبنان مرتبط بعوامل خارجية سياسية محضة، لا علاقة لها بما يجري داخل العراق أو لبنان. وحيث قال عبد الحليم خدام لقناة "فرانس 3" "أن التفجيرات التي تستهدف لبنان لن تتوقف". فراقبوا الأحداث جيداً، وسوف تعلمون.

_ - بدأت سوريا بالبحث عن مسرح جديد لاستعراض قواها الأمنية والاستخباراتية والسياسية، بعد انسحابها العسكري من لبنان ذلك الانسحاب المهين. وبعد أن أضاع بشار الأسد (الأندلس السورية في لبنان) إرث الآباء، كما أضاع أبو عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس مُلك غرناطة. بعد أن نامت نواطير الشام عن ثعالبها. وبعد أن كانت سوريا تحكم لبنان من خلال أكثر من 75 بالمائة من القوى السياسية اللبنانية الحليفة لسوريا والمتمثلة بـ "حزب الله"، و "حركة أمل"، و"حزب المردة – فرنجية"، و "حزب البعث اللبناني"، و "الحزب الاجتماعي السوري" وزعامات أخرى لبنانية مسيحية (اميل لحود، وميشيل عون الطامع بالرئاسة) وسُنيّة (عمر كرامي، محمد رشيد قباني، نجيب ميقاتي وغيرهم ) ودرزية (طلال أرسلان، ووئام وهاب). اضافة إلى الجيش اللبناني والأمن اللبناني وقادته الذي يكنون ولاء خاصاً لسوريا باعتبار انها هي التي بنت الجيش اللبناني والأمن اللبناني ودربته، وعيّنت كبار ضباطه، بعد انتهاء الحرب اللبنانية الأهلية. وما زالت سوريا تسيطر على هذه القوى. وما زالت هذه القوى تعلن تحالفها الصريح مع سوريا على رؤوس الأشهاد، مما يشكل أعقد علاقة سياسية في العصر الحديث بين دولتين وشعبين على هذا النحو.

- لقد نضجت التجربة السياسية العراقية بعد الانتخابات التشريعية. وبدأت أوضاع العراق تستقر قليلاً. وبدأ الارهاب في العراق المدعوم سورياً وايرانياً يخف كثيراً عن السابق. وسوف ينتهي الارهاب مع اشتراك السُنّة العراقية في الحكومة القادمة واقامة "حكومة عراقية قوية متوازنة تشترك فيها جميع الاطراف العراقية"، كما قال في كردستان عدنان الدليمي أحد زعماء "جبهة التوافق العراقية" السُنيّة. وبدأت "القاعدة" توجه صواريخ الكاتيوشا نحو اسرائيل من لبنان. وبدأ النفوذ – السوري الإيراني في العراق يتقلص. ولم يعد لسوريا من ساحة تستعرض فيها قواها المحدودة والمتمثلة بالسيطرة والدعم المادي (ومنبعه الأصلي من ايران) واللوجستي على معظم الجماعات الإسلامية المسلحة غير الساحة الفلسطينية وغزة على وجه الخصوص، التي تم الإعلان عنها مؤخراً بأنها "مزارع شبعا الفلسطينية".

- أصبحت سوريا "العظمى" لا تخشى من دعمها المكشوف والمباشر للفصائل الفلسطينية الدينية المسلحة. ومن هنا، كان لحماس مهرجان سياسي ضخم في دمشق قبل أيام، وقف فيه خالد المشعل القيادي البارز في حماس وأعلن انتهاء التهدئة، وبدء الانتفاضة الثالثة التي تعني برأينا انتهاء القضية الفلسطينية نهائياً لصالح اسرائيل وخسران الفلسطينيين والعرب ما تبقى من فلسطين. فالانتفاضة الأولى قضمت 20 بالمائة مما تبقى من فلسطين. والانتفاضة الثانية قضمت 30 بالمائة مما تبقى من الباقي. والانتفاضة الثالثة سوف تأتي بالنهاية. وسوريا وايران تتفرجان، وتلعبان بكرة النار الفلسطينية، بعيداً عن الاراضي الايرانية والسورية. وهما غير متكافئتين قوة عسكرية وقوة سياسية مع اسرائيل. ورغم ذلك تدخلان الملعب بالفريق الفلسطيني الديني المسلح تسليحاً عثمانياً، أمام أقوى قوة عسكرية وسياسية في الشرق الأوسط. والنتيجة كما هي في كل مرة معروفة، قبل أن يُطلق الحكم صفارة بدء المباراة.

- يحاول لبنان ترسيم الحدود السورية – اللبنانية، رغم معارضة سوريا الشديدة، ووضع الجيش اللبناني على هذه الحدود، وذلك لمنع تهريب السلاح والمقاتلين والارهابيين إلى لبنان من سوريا، ومحاولة قطع الحبل السُري اللوجستي بين حزب الله وبين سوريا حتى تستطيع السياسة اللبنانية جرّ حزب الله إلى طاولة المفاوضات لنـزع سلاحه الذي لن يُنـزع ما دامت سوريا /ايران تقف في ظهر هذا الحزب، وتحرّضه على السلطة اللبنانية التي أخرجت سوريا من لبنان. وكان آخر هذه التحريضات تعليق مشاركة الوزراء الشيعة بوزارة السنيورة وتهدديهم بالاستقالة لخلق أزمة وزارية حادة في لبنان وقلب الطاولة السياسية على رأس "المستقبليين" من أنصار سعد الحريري ووليد جنبلاط.

ثانيا:
يقف محمود عباس الآن في مواجهة الحلف الثلاثي (فلسان) المكون من المليشيات الفلسطينية الدينية المسلحة وسوريا وإيران، وهو ما أكده أمس (12/1/2006) غسان تويني في مقاله بجريدة "النهار" تحت عنوان " من جرّب المجرّب" وقال فيه متنبئاً بقيام هذا الحلف الثلاثي (فلسان): "تمضي ايران في برنامج تخصيبها النووي بينما يتهيأ رئيسها لزيارة دمشق مبشراً بتوقيع اتفاق ستراتيجي معها يصير مساراًً ثلاثياًً.. الى اين؟.. الى القدس؟ أم الى حرب اقليمية بل دولية تشرّع أبواب "الساحة" اللبنانية أمام كل الاحتمالات؟" وقد انضم الى هذا الحلف الثلاثي الفتحاوي العتيق فاروق القدومي (الحليف السوري التقليدي) مؤخراً معلناً من غزة أن الانتفاضة مستمرة؛ أي أن الانتحار مستمر. وأن فلسطين لن يحررها غير السلاح الفلسطيني الذي بدأ يتدفق على غزة سالكاً طريق طهران - بغداد – دمشق. وبدأ هذا السلاح يساهم أكثر فأكثر في الانفلات الأمني وبتبني جرائم "القاعدة" في العراق، وهو اختطاف المدنيين. وهذا الحلف أقوى ألف مرة من محمود عباس وباقي أشلاء "فتح" التي لا تملك رصاصة واحدة، ولا قلماً واحداً، ولا فلساً أحمر، وتمشي على أرض فلسطين حافية القدمين. وبالتالي، فإن المعركة بين عباس والحلف الثلاثي (فلسان) معركة محسومة منذ البداية وهي النصر للحلف الثلاثي والهزيمة لعباس وجنده. وهذا ما ستظهره نتيجة الانتخابات التشريعية القادمة في 25 يناير من هذا الشهر. حيث يملك الحلف الثلاثي (فلسان) كل مقومات النصر من المال والسلاح والخطاب السياسي الواضح ودعم الشارع الفلسطيني الديني الفقير. في حين لا يملك عباس وفتحه عنصراً واحداً من عناصر النصر. بل هو يملك من أسباب الهزيمة أكثرها، وعلى رأسها الفساد المالي والإداري، وحالة الفلتان الأمني، والفشل في المفاوضات مع اسرائيل.

فماذا ينتظر عباس؟

هل ينتظر دخول معركة خاسرة بسيوف من خشب؟

لقد سبق وقلنا أن عباس سياسي عقلاني وواقعي، وصاحب قرار. وأنه لا يدخل معارك خاسرة. وانه يفضل أن يعتزل قبل أن يغامر أو يتنازل. وهذا ما فعله عندما استقال بشجاعة الفرسان بعد ثلاثة أشهر من تأليفه الحكومة في عهد عرفات 2003. فهل يتنازل عباس ويرحل؟

ثالثا:
كتبت اليَّ مجموعة كبيرة من القراء، تعليقاً على مقالي السابق (لم يبق غير الرحيل يا عباس) وأجمعوا، بأن دعوتي عباس للاستقالة هي دعوة لعباس لترك الساحة الفلسطينية للفصائل الدينية الفلسطينية المسلحة. وأنا اعترف هنا، بأنني أدعو عباس فعلاً لافساح المجال للفصائل الفلسطينية الدينية المسلحة لكي تتسلم الحكم الفلسطيني وتواجه اسرائيل والعالم من ورائها بشعاراتها السياسية الخيالية، لكي يكتشف الشارع الفلسطيني والرأي العام العربي قدرة هذه الفصائل على استرداد شبر واحد من فلسطين. وكما قال الفيلسوف الألماني هيجل فإن "شرط التجاوز هو التحقيق". ولا يمكن تجاوز الفصائل الفلسطينية المسلحة وشعاراتها الرومانسية الخيالية والعاطفية إلا إذا اتيحت لها فرصة الحكم وممارسة السلطة. وهذا ما ينطبق على كل الجماعات الدينية في العالم العربي. وهذا ما سبق وانطبق على حزب البعث عندما تسلم الحكم 1963 في سوريا والعراق، وأصبحت شعاراته في الوحدة والحرية والاشتراكية هُراءً وسراباً، ولم يحقق على أرض الواقع غير الفساد والطغيان والاستبداد والفرقة. فأين هي الحرية، وأين هي الوحدة، وأين هي الاشتراكية بعد حكم هذا الحزب لأكثر من 45 عاماً ، وما زال في الحكم؟

هل قرأتم كتاب (التجربة المرة ، 1966) لمنيف الرزاز الأمين العام المساعد في حزب البعث (1977-1979 والذي اغتاله صدّام حسين عام 1984؟

هل شاهدتم مقابلة عبد الحليم خدام في فضائية "العربية" الذي طرد بالأمس من حزب البعث؟
فدعوا الأحزاب الدينية تحكم ولو لمرة واحدة، وسيكون مصيرها كمصير حزب البعث الآن؟