د. فيصل القاسم

لعل أكثر ما يثير الضحك والسخرية في الساحتين السياسية والإعلامية العربيتين أنه ما أن تتركز الضغوط الأمريكية على بلد عربي بعينه حتى ينبري بعض الإعلاميين والسياسيين العرب في البلدان الأخرى غير المستهدفة أمريكياً بالانضمام إلى جوقة الضاغطين والمرشدين والواعظين، فيبدأوا بتقديم النصائح والمواعظ السياسية بالجملة والمفرّق للدولة التي تحت الضغط بطريقة تبعث على القرف والاشمئزاز وأحياناً الفكاهة لشدة سخافتها ونفاقها وانفضاح أمرها. وكم أشعر بأنني أريد أن انفجر ضاحكاً عندما أقرأ لصحفي أو كاتب عربي من بلد يفوق البلد المستهدف فساداً وديكتاتورية وتخلفاً وقمعاً وهو يسدي إرشاداته «الديموقراطية» للقيادة السياسية التي تستهدفها الحملة الأمريكية كما لو أنه من سلالة الديموقراطيين الاسكندنافيين الأقحاح.

أليس حرياً بالذين نصحوا العراق في الماضي وينصحون سوريا حالياً أن يتكرموا بمواعظهم «الثمينة والمخلصة» على أنظمة بلدانهم، حيث إن الأقربين أولى بالمعروف في ثقافتنا الإسلامية وحيث إن المواطن العربي من المحيط إلى الخليج أذكى وأفطن بكثير من ثلة الإعلاميين المنافقين الذين يشحذون سكاكينهم الصحفية تحت الطلب في كل مرة يقع فيها بلد عربي تحت ساطور الجزار الأمريكي. وبدلاً من تأثيم بعض الأنظمة دون غيرها نزولاً عند رغبة العم سام وأزلامه كان أولى بهم على الأقل إما أن يخرسوا أو يوجهوا لكماتهم في كل الاتجاهات العربية وفي كل الأوقات، بدلاً من حصرها في أزمنة وزاوية واحدة لأن المشاهد أو المستمع أو القارئ لا يرحم الإعلاميين المنافقين والأفاقين ويعرف أن الأمر مجرد لعبة شيطنة إعلامية دنيئة ممنهجة ومبرمجة ضد الأنظمة المغضوب عليها أو في أحسن الأحوال حق يراد به باطل لغايات مفضوحة. وقد شاهدنا كيف كان بعض الإعلاميين العرب يرجمون ليبيا ليل نهار ثم صمتوا فجأة بعدما سوّت طرابلس الغرب أوضاعها مع أمريكا. ويتذكر الكثير منا كيف كان الإعلام الخليجي يؤله صدام حسين وأولاده وكيف كانت صورة عُدي تتصدر أغلفة بعض المجلات العربية الصادرة في لندن في الثمانينيات من القرن الماضي.

تشترك معظم الأنظمة العربية الحاكمة في خصائص مفضوحة كعين الشمس ألا وهي الاستبداد والاستئثار بالسلطة والفساد وتكميم الأفواه والانصياع الأعمى لإملاءات الخارج والتفنن بتعذيب المعارضين حتى لو اختلفت الأساليب. وقد رأينا على مر السنين كيف أن الاتفاق الوحيد الذي يحصل بين الأنظمة العربية يكون خلال اجتماعات وزراء الداخلية العرب المخضرمين في تونس الخضراء مما يؤكد حقيقة التعاون على «الإثم والعدوان» والتحالف المفضوح ضد الشعوب وإبقائها تحت البساطير والنعال.

ولعل أكثر ما يثير الضحك أن هناك صحفاً ووسائل إعلام عربية تمتلكها أنظمة ما زالت تحكم بلدانها على طريقة القرون الوسطى سياسياً واقتصادياً، لكنها تريد أن تقنعنا بأنها قلعة للديموقراطية والليبرالية. ويظهر زعمها جلياً فيما تنشره وسائل إعلامها المقروءة والمرئية. فإذا تصفحت صحيفة تابعة لذلك النظام القروسطي تجد أنها تغص بالكتابات الليبرالية التي تتفوق على كتابات عتاة الليبراليين الغربيين في تحررها وانفتاحها وتطرفها هذا إن لم تكن على يمين المحافظين الجدد. ومن هذا المنطلق نجد الكتاب في تلك الصحف يوزعون نصائحهم الليبرالية والديموقراطية العتيدة للأنظمة المستهدفة أمريكياً دون غيرها كالنظام السوري مثلاً. وتراهم يغضون الطرف تماماً عن النظام الذي يرعى صحفهم ومواقعهم الالكترونية «الديموقراطجية» العتيدة بالرغم من أنه يكاد يكون الأسوأ ديموقراطياً واجتماعياً في العالم العربي.

وليس صحيحاً أبداً أن النظام العربي القروسطي الذي يدير امبراطورية إعلامية مترامية الأطراف يترك الحرية والخيار للقائمين على تلك الوسائل يديرونها بالطريقة «الديموقراطية» التي يرونها مناسبة. بعبارة أخرى فإن تلك الوسائل تكون ديموقراطية وقت يشاء ذلك النظام المالك ومناصرة لأبشع أنواع الظلم والاستبداد عندما يرى ضرورة لذلك. وقد رأينا في الآونة الأخيرة كيف تكالبت وسائل الإعلام التابعة لأحد الأنظمة العربية على سوريا كما لو كانت جوقة «منسقة» كما وصفها مرة نزار قباني، لكنها سرعان ما خرست دفعة واحدة عندما جاءتها الأوامر العليا، «فكان الانصياع والانهيار الكامل للمصداقية، وانكشاف دور هذه الاجهزة الاعلامية كأبواق دعاية وأدوات مطيعة في يد السلطان، يطلقها فتنهش من يشاء، ويعقلها فتجلس سامعة مطيعة». حتى إن إحدى الصحف «المحترمة» لحست الإعلان عن مقابلة من صفحتين مع عبد الحليم خدام بعدما روجت لها لأيام ولم تتكرم على قرائها الأعزاء حتى باعتذار بسيط عن سحب المقابلة من النشر .

وكانت صحيفة (القدس العربي) قد نشرت على صدر صفحتها الأولى عنواناً عريضاً يقول: «السعودية تأمر إعلامها بوقف الترويج لانشقاق خدام». ويضيف الخبر بأن «وزارة الاعلام السعودية أصدرت تعليمات لوسائل الاعلام التي تمولها، بوقف التركيز على تصريحات نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام، الذي دعا لإسقاط النظام في دمشق. وقالت المصادر التي رفضت الكشف عن هويتها إن النظام السوري أعرب للسلطات السعودية عن سخطه واستيائه لبدء الاعلام السعودي وتبنيه الحملة التي يقودها خدام لتشويه صورة النظام ورئيسه بشار الاسد». باختصار فإن أولئك الصحفيين والكتاب «الليبرالجيين» المزعومين الذين استهدفوا سوريا ليسوا أكثر من «أقلام بالأرطال» حسب وصف قباني أو أدوات يتحركون فقط ضد نظام دون الآخر تماشياً مع الموقف الأمريكي من هذا النظام أو ذاك. ومعروف أن بعض الأنظمة العربية الحليفة لواشنطن تصبح ملكية أكثر من الملك عندما يُطلب منها التحرك سياسياً وإعلاميا ضد النظام المغضوب عليه أمريكياً.

فإذا كانت أمريكا راضية عن نظام عربي ما حتى لو شوى المساجين في السجون، فإن الإعلاميين أصحاب النصائح «الديموقراطية» لا ينبسون ببنت شفة، هذا إذا لم يبرروا انتهاكات حقوق الإنسان الرهيبة في تلك البلدان أو يضعوا اللوم على «الشعوب المتخلفة» التي تريد لها أنظمتها الديموقراطية والحرية لكنها تمانع بفعل تخلفها وعدم تقديرها «لفضائل الديموقراطية». وكم ضحكت عندما استمعت «لليبرالجي» عربي صدّع رؤوسنا بالحديث عن ضرورة الليبرالية للعرب والمسلمين وهو ينحو باللائمة على بعض الشعوب العربية لكونها «ترفض» النعم الديموقراطية التي يجود بها عليها حكامها. من يصدق هؤلاء «الليبرالجيين» عندما يصل بهم الحد إلى تبرئة أنظمة غارقة في الشمولية والاستبداد والتخلف لمجرد أنها تفتح لهم بعض مواقع الانترنت أحياناً لشتم العرب والمسلمين والتملق للغزاة والمستعمرين الجدد بحجة نشر الديموقراطية؟ من يصدقهم وهم يميزون بين نظام عربي وآخر في الشأن الديموقراطي كأن يقولوا مثلاً إن النظام السوري رمز للديكتاتورية والشمولية بينما النظام السعودي يسعى لتحقيق الديموقراطية لكن شعبه يرفض بحكم خلفيته الأصولية؟ على من يضحك هؤلاء؟ لماذا هذا الاستغباء الفظيع لعقول الناس؟

لقد وجه الكثير من «المتلبرلين» العرب رسائل إلى القيادة السورية يحثونها فيها على تطبيق الديموقراطية فوراً كي تتفادى الضغوط الأمريكية وتجنيب البلاد المصير العراقي.
ولا أدري لماذا لم يتكرم أصحاب تلك الرسائل بتوجيهاتهم ومواعظهم الديموقراطية لأنظمة بلدانهم التي تحكم بالحديد والنار ولا يستطيع فيها المعارضون فتح أفواههم إلا عند طبيب الأسنان؟ لماذا السخاء الديموقراطي الشديد مع سوريا التي ما زالت في حالة حرب مع إسرائيل ومحاطة بالأعداء والمتآمرين من كل حدب وصوب وليس مع تونس الوادعة والقريبة من أوروبا أو ليبيا أو الجزائر أو مصر أو السعودية أو الأردن؟ هل هناك شمولية فظيعة في دمشق وجمهوريات افلاطونية في بقية البلدان العربية؟ أم إن هناك هياكل عظمية متفسخة في كل الخزائن العربية كما يقول المثل الانجليزي؟

بدلاً من الكذب على الشارع العربي لا بد لهؤلاء الذين لا يستلون سيوفهم الإعلامية الصدئة إلا لمقارعة الأنظمة التي تستهدفها واشنطن أن يبينوا للشعوب أن ليس هناك «حامض وحلو» في عالمنا العربي. كلنا في الهوى سوى. وفي اللحظة التي يقرر فيها البيت الأبيض سحب الغطاء عن أي نظام عربي لسبب أو لآخر حتى تبدأ الروائح الكريهة تخرج من العاصمة المستهدفة، فيكثر المنشقون ويخرج لنا معارضون كنا نعتقد أنهم من «عظام الرقبة» وتـُفضح جرائم حقوق الإنسان التي كان يمارسها النظام تحت مرأى وسمع العم سام؟ ويبدأ فتح الملفات النائمة وكشف المستور وتبدأ الشيطنة الإعلامية بحيث يصبح أحباب الأمس القريب فجأة وحوشاً مرعبة جديرة بالمطاردة والسلخ بسبب خطرها الداهم على "البشرية" والأمن الدولي. لقد كا نورييغا رئيس بنما مثالاً للفضيلة حتى اختلف مع أسياده في البيت الأبيض فأصبح فجأة تاجر مخدرات خطيراً جديراً بالملاحقة والمحاكمة والزرب وراء القضبان. ولا شك أن لكل نظام عربي مئات الملفات المنوّمة حتى تحين الساعة ليفتح «صندوق باندورا»Pandora’s Box ، صندوق الشرور والعجائب.

كلنا بحاجة ماسة للتحرر من نير الاستبداد وتحقيق الديموقراطية بدءا بسوريا وانتهاء بموريتانيا وليس هناك نظام عربي جدير بالفضح والقدح وآخر جدير بالمدح.إن المشاهد أو القارئ العربي يعرف جيداً أن ليس هناك خيار وفقوس في أنظمة الحكم العربية، فكلنا في الهم شرق، أو بالأحرى كلنا أولاد حارة واحدة ونعرف بعضنا البعض جيداً و«ما حدا أحسن من حدا» إلا بدرجة السوء، وإن السكوت الأمريكي المشروط عن بعض الأنظمة لا يمنحها صكوك غفران ديموقراطية أو شهادات حسن سلوك إنسانية.