غسان الامام/الشرق الأوسط

منذ أن وضعت اسرائيل بيضتها النووية الأولى في الخمسينات، تمنطق العرب بحزام العفة النووي، ضاربين عرض الحائط بأمنهم القومي! لا أدري الآن ما اذا كانت هذه العذرية النووية ستحميهم من الديك النووي الإيراني.

بعد انفضاح مشروع إيران النووي في عام 2002، كتبت في هذه الصحيفة مرارا وتكرارا محذرا من أن حزام العفة لن يشكل واقيا للعرب من قنبلة يجري تصنيعها في شرقهم، ومن قنبلة كامنة في صميمهم المحتل والمغتصب. ويبدو أن حزام العفة ارتفع من الخصر الى الآذان، ليصيبها بالصمم عن الخطر الداهم.

وحتى قبل أن تتمكن إيران من وضع بيضتها النووية، فالعرب مهددون أمنيا واقتصاديا. إيران تقول إن منشآتها النووية إذا تعرضت لقصف أميركي أو إسرائيلي، فسترد بقصف القواعد الأميركية في العراق والخليج. وإذا تعرضت منشآتها النفطية للقصف أو للتخريب، ومعظمها واقع في اقليم عربستان (خوزستان) المطل على الخليج، فسترد باغلاق مضيق هرمز. ولعل الخليجيين يعرفون أن الصواريخ الإيرانية المتوسطة قادرة على قصف الآبار والمنشآت النفطية الخليجية، بحجة انها تزود الغرب (المعتدي) بما يحتاجه من الطاقة.

في التقديرات الغربية، قنبلة إيران ستكون جاهزة خلال فترة تتراوح بين ثلاث سنوات وخمس سنوات. رفسنجاني الذي ما زال يتولى «تشخيص» مصلحة النظام يقول إن قنبلة واحدة كافية لمحو اسرائيل. إذا قرر الرئيس الإيراني أحمدي نجاد أن مصلحة إيران في تنفيذ تهديده بمحو إسرائيل، فسيوصل هذه القنبلة الى اسرائيل، محمولة على صواريخ بعيدة المدى يجري تصنيعها حاليا بمعرفة كوريا الشمالية.

غير أن اسرائيل صُنعت وصُممت أساسا ليس لتلقي الضربات، وإنما لتوجيهها أولا، بحكم طبيعتها العدوانية. ربما قبل وصول قنبلة رفسنجاني ونجاد، فستكون القنبلة الإسرائيلية قد انطلقت إلى سورية ومصر وإيران، ثم الى الخليج. وقد صدر أكثر من تصريح من زعماء وساسة إسرائيليين متطرفين يدعو إلى قصف العتبات المقدسة في مكة والمدينة.

إيران، في تقييم الغرب، دولة مارقة. فهي عنده، متقلبة خطرة، غير عاقلة أو منطقية، لأنها تمزج الدين بالسياسة، ولأن لها علاقة بالإرهاب. إذا صحت هذه الرؤية الحاقدة، فالقنبلة الإيرانية كافية لمحو إسرائيل، من دون أن «يشخص» رفسنجاني ونجاد مصلحة إيران في «تمويت» خمسة ملايين فلسطيني في الضفة وغزة واسرائيل.

اسرائيل دولة أشد مروقا من إيران. سبق أن ذكرت هنا ان اسرائيل عبأت صواريخها بقنابلها النووية، استعدادا لقصف مصر وسورية، عندما خسرت الجولة الأولى في حرب 1973. وهي في أية حرب نووية لن تكتفي بقصف إيران وجيرانها العرب، بل سيمتد القصف الى أكثر من بلد عربي في المغرب الكبير، ثم في العالم الإسلامي، وفي مقدمته باكستان، وربما تركيا أيضا.

ولا بد من تذكير العالم بأن هناك دولة كبرى مارقة أيضا. كانت أميركا الديمقراطية، وليست ألمانيا الهتلرية، الدولة التي استخدمت فعلا القنبلة النووية. مات ربع مليون ياباني خلال ثوان في هيروشيما ونغازاكي. وكانت الحجة ان «تمويت» اليابانيين الصفر لتقصير أمد الحرب، أفضل من «تمويت» الأميركيين البيض الذين يقاتلون اليابان.

ليس من عادتي التهويل والمبالغة. ما أقوله قد لا تقرأه في الصحف، لكنه موجود في الأفكار والعقول النووية، ومثبت في الخطط والدراسات الاستراتيجية والعسكرية الاميركية والاسرائيلية خصوصا والغربية عموما. وبإمكان الباحث والدارس الاطلاع على القليل النادر منها الذي يتسرب الى الكتب والمجلات المتخصصة.

غزو إيران استحالة برية مع تعثر الغزو الأميركي للعراق، ولاتساع إيران مساحة وسكانا بثلاثة أمثال العراق. لكن الإغراء بقصف إيران، قبل امتلاكها القنبلة، قوي جدا. إذا كانت الإغارة أميركية، فالقصف سيتم بصواريخ كروز والطائرات القاذفة. المشكلة ان إيران وزعت تقنياتها النووية على أكثر من مائة مركز في أنحاء البلد، ومعظمها في عمق الأرض. أما اذا كان القصف اسرائيليا فسيقتصر على مفاعل بوشهر ومركز ناتنز لتخصيب اليورانيوم. لكن لا بد للطيران الاسرائيلي أن يستعير بشكل وآخر قواعد أميركية، والأرجح في العراق، كذلك سيسلك المجالات الجوية المتاحة لأميركا في المنطقة.

القصف الأميركي والاسرائيلي قد يتسبب بخسائر بشرية إيرانية كبيرة، وبتلوث اشعاعي خطر على الخليج. وبالاضافة الى احتمال اغلاق مضيق هرمز وقصف القواعد الاميركية في الخليج والعراق، فقد تلجأ إيران الى القيام بعمليات انتحارية ضد المصالح الأميركية في المنطقة، وضد المصالح والمؤسسات الاسرائيلية واليهودية في العالم، كذلك ستلجأ الى تحريك «حزب الله» اللبناني والمنظمات «الجهادية» الفلسطينية.

على أية حال، ما زالت القضية النووية الإيرانية في دائرة الديبلوماسية. لكن مكر السياسة الإيرانية أفقدها الثقة والمصداقية. فهي تلجأ الى ازدواجية متناقضة في التعامل والتفاوض مع الآخرين. تقول للعرب انها لا تعرقل العملية السلمية، فيما تشجع وتمول المنظمات «الجهادية» الفلسطينية، وأدت العمليات الانتحارية التي تمولها الى ايصال اليمين الاسرائيلي الى الحكم، فراح يقضم الضفة والقدس بالاستيطان والأسوار، لجعل الدولة الفلسطينية استحالة عملية.

مكر سياسة الازدواجية يتجلى أيضا في اعلان ايران عن عدم التدخل في العراق، فيما ساهمت مساهمة فاعلة في ايصال اليمين الشيعي الديني والطائفي الى الحكم، وهي تلح عليه في اقامة «كانتونات» تقسيمية في الوسط والجنوب، لمحو هوية العراق العربية. كذلك فهي تقول للغرب وللعرب، بعد انفضاح مشروعها النووي، انها لا تعتزم انتاج أسلحة نووية.

يبقى السؤال، إذن، لماذا كانت سرية المشروع على مدى ثمانية عشر عاما؟! ولماذا تحاول اثراء اليورانيوم بهذه الوفرة إذا كان المشروع سلميا؟ ثم لماذا الطاقة النووية أصلا ما دامت إيران تملك الطاقة النفطية والغازية الرخيصة جدا (عشرة بالمائة من احتياطي العالم النفطي وثاني أكبر احتياطي غازي)؟

من مكر السياسة الذي لا يتفق مع أخلاقية دولة دينية، إلى غباء المناورة: بدلا من تكرار المقولات النظرية التقليدية عن محو اسرائيل وترحيل اليهود، وكلها تزيد من ضغينة الغرب على ايران والعرب، كان على الرئيس أحمدي نجاد جعل تجريد المنطقة من الأسلحة النووية هو مبدأ التفاوض المحرج للغرب واسرائيل. إسقاط هذا المبدأ مكن أوروبا، في عملية المساومة، من تعطيل المشروع الايراني النووي سنتين. مناورة كسر أقفال وكالة الطاقة النووية الدولية، لاستئناف بحوث إثراء اليورانيوم، وَحَّدَ مواقف المانيا وفرنسا وبريطانيا مع أميركا وروسيا، في إحالة ايران الى مجلس الأمن.

مجلس الشرطة الدولية قد يوجه تحذيرا قبل أن يفرض حصارا وعقوبات. إذا عجز المخفر الدولي عن اتخاذ اجراءات رادعة، فقد تلجأ أميركا وأوروبا الى فرض حصار بحري وبري على ايران، وتحريك الأقليات في الداخل من تحت لتحت كالعرب والأكراد والبلوش، ودعم الحركة الاصلاحية الرافضة لكآبة التجربة الخمينية التي يسعى الرئيس نجاد لتجديد أحزانها واخطائها.

أين العرب في هذه المعمعة النووية؟

ما زالوا محزومين بحزام العفة النووية. وأقفال الحزام وديعة لدى أميركا، إلى أن يشيب الغراب ويفنى التراب.