سركيس نعوم/النهار

لم يكن الزعيم الدرزي رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط محقا عندما طالب "حزب الله" وربما حلفاءه الرئيسيين داخل الطائفة التي يمثل، بالولاء للبنان السيّد والحر والمستقل والديموقراطي. ذلك ان هذا الحزب اثبت لبنانيته ولبنانية من يمثل بدم الجرحى والشهداء الذين سقطوا اثناء مقاومة الاحتلال الاسرائيلي لاجزاء عزيزة من لبنان. وتوّج هذه اللبنانية بتحرير هذه الاجزاء في ربيع عام 2000. لكنه كان يمكن ان يكون محقا لو طرح هذا الموضوع بطريقة مختلفة. اي لو اكتفى بسؤال "حزب الله" وحلفائه اي لبنان يريدون؟ "لبنان الاسلامي"، وتحديدا الايراني، ام "لبنان السوري"؟ لبنان الذي تنفذ حكوماته ورؤساؤه التعليمات التي تأتيهم من دمشق او من طهران، ام لبنان الذي يقرر في كل ما يخصه ويخص علاقاته مع الخارج، مع اخذ العلاقة المميزة مع سوريا والخاصة مع ايران في الاعتبار؟ لبنان ساحة المواجهة للدولتين الاقليميتين المذكورتين مع الغرب، بل مع المجتمع الدولي كله، ام لبنان القادر على ان يكون جسرا لهما معه؟ لبنان المسيّر من "حزب الله" وحلفائه السوريين داخل الطائفة التي يمثل بدعم اقليمي معروف رغم تنوعه الطائفي والمذهبي والسياسي، ام لبنان المتساوي بابنائه على تنوع انتماءاتهم المعروفة؟

فالمشكلة في لبنان، وهي عتيقة بل مزمنة، ليست في ولاء ابنائه له او على نحو أصح طوائفه ومذاهبه له، لان لا وجود فيه لمواطنين ابناء بل لطوائف ومذاهب ارتقت بممارساتها الى مرتبة الدول. فهذا الولاء موجود. لكنها (اي المشكلة) تكمن في اللبنان الذي يؤمن به كل منها والذي يسعى الى اقامته. والتجربة دلت، وخصوصا اثناء الحروب الاهلية وغير الاهلية التي عصفت بلبنان وبعد انتهائها، على ان "لبنانات" الطوائف والمذاهب اللبنانية مختلفة بعضها عن بعض الى درجة التناقض. فلبنان المسيحيين كان لبنان ذا الوجه العربي، اي غير المستعد للدخول في اي حركة وحدوية عربية خوفا من ذوبانه في بحر الاسلام الذي هو دين الاكثرية الساحقة من العرب. ولبنان المسيحيين كان ايضا لبنان المستقل ذا الارجحية المسيحية في السلطة والجاهز للتعاون مع كل القوى الاقليمية والدولية بغية المحافظة على نفسه، بصرف النظر عن اي محرمات قد تكون موجودة. ولبنان المسلم في حينه كان لبنان الكامل العروبة، والكامل المشاركة الاسلامية في السلطة. مع ميل الى جعل الارجحية فيه للمسلمين نظرا الى تفوقهم العددي على مواطنيهم المسيحيين. وكان لبنان المستعد لان يضحي بنفسه استقلالا وسيادة واقتصاداً وعمرانا ومواطنين من اجل القضايا العربية وابرزها اثنان: فلسطين والوحدة العربية. وعندما قاتل مواطنو هذين اللبنانين المسيحي والمسلم لم يكونوا ناقصي الولاء للوطن. لكن مفهوم الوطن عند كل منهما كان مختلفا عن الآخر.

وعندما انتهت الحرب عام 1990 بفضل اتفاق الطائف الذي تم التوصل اليه عام 1989 برعاية عربية ودولية، ظن اللبنانيون ان مشكلة الولاء انتهت باقتناعهم جميعا بمفهوم واحد للبنان الوطن والدولة وفقاً لما جاء في الدستور المنبثق من الاتفاق المذكور. اي لبنان الكيان النهائي، ولبنان العربي، ولبنان العيش المشترك بين كل طوائفه ومذاهبه، ولبنان السيّد والمستقل والحر، ولبنان الجمهورية الديموقراطية البرلمانية.

لكن ما جرى في لبنان في الـ15 السنة التي اعقبت الحرب، ولاسيما في الثلث الاخير من 2004 وطوال 2005، اظهر للبنانيين ولغير اللبنانيين المعنيين بلبنان ان شيئا لم يتغيّر في بلادهم. فالسؤال "الازلي" والتشكيكي لا يزال يطرح وهو: الولاء لمن؟ للوطن ام للخارج على تنوعه؟ والمشكلة الاساسية التي يعبّر عنها هذا السؤال، لا تزال قائمة وهي: اي وطن يريد ابناء لبنان؟ ويعكس ذلك طبعا استمرار وجود "لبنانات" متنوعة ومتناقضة عندهم.

وهنا قد يعترض البعض من اللبنانيين على التعميم بالقول ان المسلمين السنة والدروز والمسيحيين حددوا مفهومهم للبنان الوطن بقبولهم المفهوم الوارد في اتفاق الطائف، وان المسلمين الشيعة هم الذين يحاولون الخروج عليه. وقد يكون في هذا القول شيء من الصحة، نظريا على الاقل. لكن العقل والانصاف يقتضيان التساؤل اذا كان لبنان هو نقطة انطلاق وحدة المفهوم للبنان عند غالبية الطوائف والمذاهب اللبنانية، او اذا كانت هناك خلفيات طائفية عند البعض ومذهبية عند البعض الآخر لا تزال تتحكم بالتطورات ومجرى الحوادث على نحو غير مباشر.

في اي حال بما اننا عدنا الى التاريخ الحديث للبنان، لا بد من الاشارة في سرعة الى امر مهم جدا خلال الحرب وبعدها يقتضي ان يأخذ منه الجميع في لبنان العبرة. وهو ان "التحالف" بين فريق لبناني طائفة او مذهبا او حزبا وجهة اقليمية، كان ينتهي دوما بدمار الفريق اللبناني او خسارته اما سياسيا واما وجوديا، لان ميزان القوى المختل كان دائما يجعله منفذا لاستراتيجيات الآخرين وسياساتهم وتوجهاتهم لا شريكا، ويجعل بلاده ساحة لتحقيق غايات هؤلاء. "فتحالف" فريق من المسيحيين مع اسرائيل افقدهم وطنيتهم وحريتهم. وعندما ادركوا انها لا تختلف عن الذين يحاربون من حيث الاسلوب والاهداف وحاولوا التراجع جعلتهم يدفعون الثمن غاليا (حرب الجبل...). ثم تحالفوا مع سوريا قبل ان يعودوا الى اسرائيل، لكن شيئاً لم يتغير. وتحالف المسلمين مع الفلسطينيين في المرحلة نفسها حولهم عسكرا لمنظماتهم ومنفذين لسياساتهم وفاقدين لاي قرار في ما يتعلق ببلادهم او على الاقل بمناطقهم، وقد عبر عن ذلك اكثر من "زعيم" مسلم اكثر من مرة. وعندما "تحالف" اللبنانيون مع سوريا، او ربما عندما دفعهم المجتمع العربي والدولي الى تحالف كهذا، تحولوا مع الوقت هم وبلادهم ساحة وورقة لها حينا، وجزءا منها "واقعيا" حينا آخر. وتعذّر عليهم الخروج من هذا التحالف بسبب الممارسات والسياسات الخاطئة، لان "الخروج من الحمام مش زي دخوله" كما يقال.

والمقصود بكل ذلك هو لفت الافرقاء المتصارعين حاليا في لبنان الى خطر الوقوع في "اسر" التحالفات الخارجية، من اقليمية ودولية، ومحاولة الافادة من اي تحالف لاعادة بناء لبنان الوطن والدولة المستقلة وليس لاعادته ساحة لاحد او ورقة في يد احد. ولفتهم كلهم ايضا الى ضرورة التخلي عن الازدواجية، اي الى جعل الباطن والظاهر واحدا. واذا لم يفعلوا ذلك فانهم سيخسرون كلهم. كما سيخسر لبنان.