جوزف سماحة/السفير

زار وفد اميركي لبنان. اعتصم طلاب ضده. قُمعوا. استنكر البعض القمع. الذين مالوا، في معرض الاستنكار، إلى تحميل الطلاب المسؤولية كثر. أكثر مما يحتمله التبجح ب<<وطن الحريات>>. حتى رئيس الوزراء لاحظ وجود <<بيض وبندورة وعصي>> مع الشباب.

تشكل الوفد من اثنين: ديفيد ولش واليوت ابرامز. تصرف الاول كأنه يقوم بواجبه. دعنا منه. الثاني بدا كأنه يحلم. ولا مبالغة في القول انه كان يعيش حلماً هنيئاً. اليوت ابرامز، في الواقع، هو الوفد.

قابل من قابل من اللبنانيين. ولكنه حين كان يتفرّس في الوجوه كان يرى اصدقاء حميمين. هذا زياد عبد النور. هذا سمير بستاني. هذا نبيل الحاج. هذا حبيب مالك. هذا دانيال ناصيف. هذا شارل صهيون... كان يتمنى لو كان معه في هذه الرحلة السعيدة باولا دوبريانسكي، واليوت انغل، ودوغلاس فيث، وفرانك غافني، وجين كيركباتريك، وريتشارد بيرل، ودانيال بايبس، وديفيد وورمزر، وآخرون... ان السالف ذكرهم هم الاعضاء الاساسيون في رحلة لبنانية بدأت قبل ايار العام 2000، وبدأت بوثيقة شهيرة ذات عنوان لافت: إنهاء الاحتلال السوري للبنان، دور الولايات المتحدة الاميركية.

لم يكن الجنوب تحرر بعد. ولم يكن بشار الأسد وصل الى السلطة. ولم تكن تفجيرات 11 ايلول حصلت. ولا احتلال افغانستان والعراق. ولا التمديد. ولا قانون المحاسبة. ولا القرار 1559، ولا موجة الاغتيالات والتفجيرات... لم يكن أي من ذلك قد حصل ومع ذلك كان هناك من يفكر، ويخطط، وينفذ، وينتظر التطورات القادرة على نقل الاهداف الى حيز الواقع.

ان اللبنانيين مدعوون الى قراءة هذه الوثيقة الاستثنائية في اهميتها والتي تدعو واشنطن الى تغيير سياستها في المنطقة وحيال سوريا ولبنان تحديداً. ان واشنطن مدعوة الى ذلك لأن هذه هي المصلحة الاميركية الحقيقية ولأن هذه هي المصلحة الاسرائيلية ومصلحة السلام في الشرق الأوسط. التغيير المقترح تغيير جذري الى أبعد حدود ولا يجوز له ان يستبعد استخدام القوة العسكرية لأن حرب 91 وحرب كوسوفو أثبتتا أن <<في وسع الولايات المتحدة الدفاع عن مصالحها وقيمها من دون شبح الخسائر الكبيرة>>.

صدرت هذه الوثيقة عن <<منتدى الشرق الأوسط>> بمبادرة من زياد عبد النور ودانيال بايبس (ايهما الأكثر ليكودية؟) وورد اسم اليوت ابرامز في المحل الثاني بين الموقعين.

لذا نقول ان الرجل عاش حلما في لبنان. اكثر من ذلك. لقد عاش تحقق احد الاحلام التي راودته واشترك فيها مع <<المحافظين الجدد>> وبعض <<اللبنانيين>> وعدد من ضباط الارتباط بين هؤلاء اللبنانيين وبين غلاة مؤيدي اليمين الصهيوني الاقصى.

ابرامز في لبنان هو ابرامز في احدى ساحات انتصاره. والانتصار الفعلي ليس خروج القوات السورية من لبنان، فهذا كان يجب ان يحصل، وإنما اللغة السائدة في هذا البلد الذي كان عاصياً، والقمع الذي يتعرض إليه محتجون على الزيارة.

ومن معالم الانتصار، أيضا، الشكوك الشرعية في ان الذين استقبلوه او تظاهروا ضده لا يعرفون تماماً دوره وتاريخه. ربما كان وليد جنبلاط وحده الذي يعرف. وربما كان ابرامز يعرف ان جنبلاط وحده يعرف. لذا لم تسمع اذنان تعبير <<سلاح الغدر>> مثلما سمعتها أذنا اليوت ابرامز.

لا بأس من تفاصيل اضافية ففي العالم الفسيح غابات كافية لمزيد من <<اللغة الخشبية>>.

اليوت ابرامز رجل ذو ماض. ذو ماض جرمي. فلقد كان، أيام رونالد ريغان، احد ابطال فضيحة <<الكونترا>>. وقد ادين امام لجنة من الكونغرس بتهمة الكذب تحت القسم، وتضليل التحقيق (لم يقل <<الحقيقة>> عن دوره)، ومراوغة النواب والشيوخ الاميركيين. وكاد يخسر حياته المهنية في الدولة لولا ان عفا عنه جورج بوش الأب ثم استعاده الى العمل جورج بوش الأبن.

والرجل هو ممن يسمون <<ديموقراطيي ريغان>>. عمل في الادارة الجمهورية خلال الثمانينيات وتميز باشتباكاته الكثيرة مع منظمات حقوق الإنسان. برع في التغطية على الارتكابات الوحشية التي كان يقوم بها عملاء الولايات المتحدة في اميركا اللاتينية (السلفادور، هندوراس، غواتيمالا، نيكاراغو) وفي افريقيا (انغولا). وتولى، شخصياً، نفي ما ثبت لاحقا من مجازر رهيبة ارتكبت في حق مدنيين من الفلاحين الفقراء. كما تولى، شخصياً، تضخيم المعلومات عن ارتكابات الحكومات المعادية لواشنطن في اميركا الوسطى اللاتينية. (ها هم، هناك، يثأرون منه بالانتخابات، وها هو، هنا، يثأر منا).

ابرامز <<برغي>> صغير في آلة المحافظين الجدد، إلا انه، دائماً، في مواقع مفصلية.

نجده، مثلاً، بين الموقّعين على <<اعلان المبادئ>> ل<<مشروع القرن الاميركي الجديد>>. أما المبادئ فهي دعوة المحافظين الى مغادرة السياسة الانعزالية من اجل الدفع نحو تحمل اميركا لمسؤولياتها في العالم عبر الجيش القوي وزيادة الإنفاق العسكري وفرض الحريات وتحدي الانظمة المعادية. شاركه في التوقيع على هذه الاطروحة العدوانية أناس من نوع غاري باور، وجب بوش، وديك تشيني، واليوت كوهين، وباولا دوبرياينسكي، وفرانك غافني، وزلماي خليل زاد، ولويس ليبي، ودونالد رامسفيلد، وبول وولفويتز، الخ...

كان ذلك في بداية حزيران 97. لاحقا اصبح هؤلاء حكام الولايات المتحدة.

ثم نعود لنجده في بداية 1998 في تلك الرسالة الشهيرة، هي الاخرى، الموجهة الى الرئيس بيل كلينتون. فحوى الرسالة ان احتواء النظام العراقي لم يعد ممكنا، وانه يصعب التعرف الى درجة امتلاكه اسلحة دمار شامل، وانه عنصر تهديد لمصالح اميركا وحلفائها ولإسرائيل لذا يتوجب الخلاص منه. والخلاص منه يكون، حصرا، بالعمل العسكري.

كان ذلك قبل تفجيرات ايلول، وإعلان الحرب على الإرهاب. وكان ذلك، خصوصاً، قبل رفع رايات التغيير الديموقراطي للشرق الأوسط الكبير.

إلا اننا نجده، تحديداً، في كتابه <<الايمان او الخوف>> (97).

اليوت ابرامز مثقف يهودي على يسار الخريطة السياسية الاميركية. الا انه ارتبط بالسيناتور الديموقراطي دانيال موينيهان المتميز بدعمه اللامحدود للسياسة الاسرائيلية. ولقد انتقل من موقعه، كما فعل محافظون جدد آخرون، الى معسكر رونالد ريغان اي الى اليمين الجمهوري. والكتاب المشار إليه هو ثمرة التجربة الناجحة عن هذا الانتقال.. يأخذ على اليهود الاميركيين ميولهم الليبرالية واليسارية وحماستهم لفصل الدين عن الدولة. يقترح عليهم، اولا، عدم الخوف من التناقص الديموغرافي، وثانيا، تقليد الاصوليين المسيحيين الاميركيين، وثالثا التحالف مع هؤلاء الاصوليين الذين غادروا الخطاب اللاسامي وأصبحوا من اشد المتحمسين لا لإسرائيل فقط، وإنما للتوسعية الصهيونية في كامل أرض فلسطين...

ابرامز هو احد ابرز منظري التحالف بين اليمين الصهيوني والاصولية المسيحية. وهو، بالتالي، احد اشد مناصري التمدد الاسرائيلي. وربما لهذا السبب اختاره جورج بوش الابن ليكون مستشاره الخاص لشؤون... الشرق الأوسط!

إذا قيل امام ابرامز <<الأرض مقابل السلام>> سحب مسدسه.

هل رجل من هذا النوع، وبهذا التاريخ، وبهذه الافكار والادوار يستقبل بغير <<البيض والبندورة والعصي>>؟

قطعا ان من حق السلطة اللبنانية، لا بل من واجبها، استقبال اي وفد رسمي اميركي. ليس هذا هو النقاش. ولكن اقل ما يمكن فعله هو التسامح مع احتجاج على وفد يضم اليوت ابرامز (ديفيد ولش افضل قليلاً، ليس اكثر). وأقل ما يمكن فعله هو ان نعرف مع من نتباحث وان نحسن وضع مواقفه في سياقها العام المرتبط بالاستراتيجية الاميركية بالمنطقة.

ان لم نفعل هذا القليل ينجح ابرامز في ان <<يغدر>> بنا. وقد فعل