الخليج/ صبحي غندور

الموضوعية تفرض أولاً، عدم وضع الحركات الإسلامية كلّها في سلّةٍ واحدة (فكراً وممارسة)، كذلك بالنسبة للحركات القومية.. وبالتالي عدم استخدام التعميم في التعامل مع أية حالة.

إن العوامل التي عززت وقوت التيار القومي العربي في خمسينات القرن الماضي، تغيرت في مطلع السبعينات، لتتحول إلى عوامل تنشيط للتيّار الديني في المنطقة العربية: هزيمة ،1967 موت جمال عبد الناصر، استخدام حكومات عربية لجماعاتٍ إسلامية من اجل دعم أنظمتها كما فعل أنور السادات في مصر وجعفر النميري في السودان، ثورة إيران، الطرح الديني في أوروبا الشرقية ضد الهيمنة السوفييتية، حرب المجاهدين الأفغان ضد الشيوعية، استخدام الطروحات الدينية في الغرب بالمعارك السياسية في الحرب الباردة (حقبة ريغان)، فشل أنظمة الحركات القومية بالمنطقة العربية في غير الدائرة المصرية الناصرية. علماً أن بعض الحركات الإسلامية العربية كانت تخدم مصالح غربية في فترة الصراع الغربي مع مصر عبد الناصر، وفي فترة الحرب الباردة بين الغرب والمعسكر الشيوعي..

من الناحية الفكرية لم تكن غالبية هذه الحركات ناضجة في مشروعها الفكري والسياسي ولم تضع تصوراً لكيفية الحكم سياسياً واقتصادياً. أما من الناحية التنظيمية، فكان معظمها يسير على صيغة “أمير الجماعة” وعلى مفهوم توارث الخلافة الإسلامية..

بالنسبة للتيار القومي العربي، فإن معظمه أساء العلاقة مع مسائل: الديمقراطية الوطنية البُعد الديني في الحياة العربية. وكانت مشكلة هذا التيار أيضاً أن قيادته النزيهة في حقبتي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، كانت في الموقع المناسب جغرافياً (مصر)، وفي الزمن المناسب (معارك التحرّر الوطني من الاستعمار)، لكنها كانت تعمل من خلال أجهزة المخابرات ومراكز القوى في الحكم، وبدون توفر الوسائل المناسبة في العمل السياسي، والتي تفترض البناء السليم للفكر والقيادات والأدوات التنظيمية. أما خارج الدائرة الناصرية، فإن حكومات الحركات القومية كانت أسوأ نموذج عن التيار القومي في الفكر والأسلوب والممارسات الداخلية والخارجية.

كذلك بالنسبة للتيار الإسلامي، فإنه لم يقم بغالبيته على أسسٍ سليمة فكرياً وسياسياً وتنظيمياً، ولم يحدّد المفاهيم الواضحة لبناء المجتمع والدولة وصيغة الحكم، ولا للعلاقة أيضاً مع الآخر العربي غير المسلم أو المسلم “غير الإسلامي”، ولا أيضاً للعلاقة مع الديمقراطية، ولا للدور المميّز للثقافة العربية والعروبة في الدعوة الإسلامية.

توجد في التيار القومي اتجاهات علمانية لا دينية، كما توجد فيه اتجاهات علمانية تؤكّد على العلاقة الخاصة بين العروبة والإسلام وعلى دور الدين في المجتمع.

وفي هذا التيار القومي اتجاهات تؤكّد على الديمقراطية السياسية مع الدعوة للوحدة وتؤكّد على رفض استخدام القوّة لتحقيقها، مقابل اتجاهاتٍ تطرح الوحدة كغاية ولا تسأل عن الوسائل ولا تمانع باستخدام القوة لتحقيق الوحدة.

في التيار القومي اتجاهات تنطلق من الواقع ولا ترى تناقضاً بين وجود الوطنيات القائمة وبين الدعوة للتكامل والاتحاد، وفي التيار القومي اتجاهات أخرى تنظر للوطنيات القائمة كعوائق أمام تحقيق الوحدة.

أما في التيار الديني، فتوجد اتجاهات تؤكّد على التكامل بين العروبة والإسلام، مقابل اتجاهاتٍ أخرى في التيار نفسه تعادي تأكيد الهوية العربية.

وفي هذا التيار اتجاهات تؤكّد على الانسجام بين الديمقراطية والفكر الإسلامي، مقابل اتجاهاتٍ ترفض ذلك وترى في الديمقراطية بدعةً غربية أو نظاماً متناقضاً مع الإسلام. اتجاهات دينية تستخدم العنف في الدعوة وفي وسائل التغيير لصالح أهدافها، وأخرى تحرم استخدام العنف. قوى في هذا التيار تريد تغيير المجتمع لوضع يفرز سلطة شرعية، وأخرى تريد لنفسها أولاً الوصول للسلطة.

أذن، هناك محاور متصارع عليها داخل كل تيار بذاته، وهناك محاور مشتركة بين بعض هذا التيار وبين بعض التيار الآخر.

ولعل أبرز هذه المحاور هي: علاقة العروبة بالدين صيغ نظام الحكم والعلاقة مع الديمقراطية العلاقة مع واقع الوطنيات أساليب الدعوة والموقف من استخدام أسلوب العنف.

الطروحات الإسلامية والقومية موجودة منذ مطلع القرن العشرين بل وقبله، لكن التوقّف عند النصف الأخير من القرن العشرين له علاقة بوصول بعض هذه الحركات القومية والدينية إلى السلطة وتحوّلها عن الدعوة الفكرية إلى الممارسة الفئوية في الحكم أو في المعارضة.

أيضاً النصف الثاني من القرن العشرين تميز عن نصفه الأول من الناحية العالمية بانتقال العالم من صراعٍ دولي وسط الدائرة الحضارية الغربية الواحدة (فرنسا بريطانيا إيطاليا ألمانيا) إلى صراعٍ دولي ذي طابعٍ أيديولوجي (شرقي شيوعي/غربي رأسمالي)، وصراعهما المباشر وغير المباشر في بلاد العرب، والذي فرز المنطقة بطابع أيديولوجي وكان أحد أسباب صراعاتٍ عربية/عربية في أكثر من مجال ومكان.

أما سمات القرن الحادي والعشرين، فلا تقوم حتى الآن على صراع دولي بطابع أيديولوجي (عقائدي) بل تنافس بين قوى كبرى على الاقتصاد والتجارة والمصالح. وفي هذا العقد الأول من القرن نلمس تراجُع الطروحات الاجتماعية التي كانت سائدة في منتصف القرن الماضي (الاشتراكية والعدالة الاجتماعية) وبروز الطروحات السياسية حول الديمقراطية وأساليب الحكم السياسي. كذلك تراجع شعارات الاستقلال الوطني والقومي بالمعنى السياسي وارتفاع شعارات “العولمة” و”القرية الكونية الواحدة” رغم وجود دعوات التمايز الثقافي والحضاري بين أمم وشعوب.. وبالتالي ضعُف الحديث عن القوميات بالمعنى السياسي وارتفع الحديث عن الخصوصيّات الثقافية والحضارية والتي قد يشترك فيها أكثر من أبناء شعبٍ واحد أو بلدٍ واحد.

ولم تعد “أطروحة العروبة والإسلام” مسألة خاصة بالعرب فقط بل هي الآن مدار نقاشٍ وترصّد في العالم كله غربه وشرقه.. وكجزء من الأمن الداخلي وليس فقط من ناحية ثقافية أو كشأن من شؤون السياسة الخارجية.. فأحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 (بحكم حجمها ومكانها ونوعيتها) فرضت التعامل العالمي مع الطروحات الثقافية والدينية المتباينة بين الشعوب كمسألة مرتبطة بالأمن الداخلي!.

في المراحل العربية المختلفة من القرن العشرين، كانت أبرز المشاكل والتحدّيات التي تواجه العرب هي:

- صيغ الحكم والعلاقات الدستورية في المجتمع/ مشكلة انعدام الديمقراطية.

- التشرذم العربي والانقسامات السياسية والصراعات الحدودية/ مشكلة التجزئة.

- التحدّي الصهيوني وتفاعلاته وارتباطه بالسيطرة الخارجية/ مشكلة التحرّر الوطني والقومي.

وقد حاولت كلّ التيارات السياسية والفكرية في المنطقة التعامل مع هذه التحدّيات والمشاكل بطريقةٍ مشتركة أو مُجزّأة، لكن بقيت المشاكل والتحدّيات رغم تعثّر وفشل النظريات والحركات والتيارات..

لذلك سيبقى مطلوباً عربياً بناء مشروعٍ فكري/سياسي عربي يقوم على:

- عروبة حضارية.. عروبة لا تجد تناقضاً مع المضمون الحضاري الإسلامي ومع دور الدين عموماً في الحياة العربية.

- عروبة وطنية.. عروبة لا تجد تناقضاً مع تعدّدية الأوطان بل تعمل لتكاملها وفق النموذج الأوروبي في الحد الأدنى (الاتحاد الكونفدرالي) أو الامريكي (الاتحاد الفيدرالي) كطموحٍ أقصى.

- عروبة ديمقراطية.. عروبة تقوم على الديمقراطية في نظام الحكم وفي أساليب المعارضة وفي علاقات المجتمع ككلّ.

- عروبة لا عنفية.. عروبة ترفض استخدام العنف لتحقيق دعوتها أو في علاقاتها مع الخارج، وعروبة تميز بين الحقّ المشروع لأبناء أوطانها المحتلة بالمقاومة ضد قوات الاحتلال، وبين باطل استخدام أسلوب العنف ضد غير المحتلين وخارج الأراضي المحتلة.