لا تحتل كلمة «الدستور» موقعاً مركزياً في الوعي الثقافي والسياسي السوري، على عكس الحال في الوعي المصري على سبيل المثال. بل إن النقاش حول الدستور غالباً ما يكون هامشياً ولا يشكّل بوصلة تحدد معنى الحوار واتجاهه، على رغم الأهمية القانونية التي يجب أن يحتلها الدستور في مستوى النقاش العام بوصفه الوثيقة القانونية الأعلى التي يُرجع إليها عند الخلاف.

والحال أن هذا لا يعود فقط إلى تأبيد العمل بقانون الطوارئ، وبالتالي يصبح تطبيق الدستور معلقاً ولا قيمة له، علماً أن الدستور السوري الدائم المعمول به صدر عام 1973 أي بعد فرض العمل بقانون الطوارئ بعشر سنوات تقريباً. ومن المفترض حينها أن يُلغى العمل بقانون الطوارئ لصدور الوثيقة التي تلغيه وتنهي مفعوله وهو الدستور، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحصل.

لا يعود إهمال الوعي بالدستور إلى ذلك كله فقط، وإنما يعود إلى جيل قديم من السياسيين لا يقيم وزناً للدستور، بل إن الدستور السوري كان عرضة للتغيير أكثر من 12 مرة، وفي عهد الرئيس نفسه. فقد عدلّه الرئيس شكري القوتلي، على سبيل المثال، أكثر من مرة وفي كل مرة كان يهدف إلى تضمينه صلاحيات أكبر له، الى درجة أنه رغب في تعديله ليسمح له بالترشح مرة جديدة. ولعبت الانقلابات العسكرية دوراً حاسماً في تحطيم بناء الثقافة الدستورية والمؤسساتية في الثقافة السورية.فانقلاب حسني الزعيم الذي لم يدم طويلاً (137 يوماً) أعقبه انقلابٌ آخر بقيادة سامي الحناوي في 30 آب (أغسطس) 1949 لم يدم طويلاً أيضاً. إذ قام أديب الشيشكلي بانقلابه الأول في كانون الأول (ديسمبر) 1949 بهدف قطع الطريق على المفاوضات السياسية التي يقوم بها حزب الشعب للاتحاد مع العراق، ثم نفذ الشيشكلي انقلاباًٍ آخر في 1953 ليصبح بموجبه رئيساً للجمهورية بعدما عيّن فوزي سلو رئيساً صورياً، وعندما تمكّن تحالفٌ بين السياسيين القدامى وعسكريين متضررين في نهاية شباط (فبراير) 1954 من الانقلاب على الشيشكلي وإعادة الحكم الدستوري، كانت الخطوة الأولى التي قام بها خلفاء الشيشكلي إعلان عدم شرعية عهده الطويل، حيث نُبِذَ دستوره الذي وضعه عام 1953 وأعيد دستور عام 1950.

لكن انتخابات 1954 كانت أكبر مؤشر حقيقي على بداية صعود اليسار السوري وتحطم فكرة الدستورية المؤسساتية، فقد سقطت حكومة العسلي الائتلافية بعد 100 يوم فقط من حكمها، وكلف سعيد الغزي وهو محامٍ دمشقي محترم ذو نزعة استقلالية بتشكيل حكومة حيادية غير حزبية هدفها الوحيد الإشراف على الانتخابات، وفعلاً نجحت تماماً في مهمتها، إذ جرت الانتخابات في 24 أيلول (سبتمبر) 1954 في ثاني انتخابات نزيهة وحقيقية تمرُّ على سورية. وكانت نتائجها مؤشراً على الخريطة السياسية وعلى التيارات الفكرية التي أصبحت مؤثرة في المتخيل الجمعي السوري حينها. فقد حصد المستقلون على النسبة الأكبر (64 مقعداً)، غير أن اللافت كان تفوق حزب البعث بحصوله على 22 مقعداً، وانتخاب خالد بكداش أول نائب شيوعي في العالم العربي، وفوز الحزب السوري القومي الاجتماعي بمقعدين، في حين تناقصت قوة حزب الشعب إلى 30 مقعداً واقتصر الحزب الوطني على 19 مقعداً.

وحققت قائمة الحوراني انتصاراً ساحقاً في مدينته حماه الأمر الذي يعكس دينامية الحوراني وشعبيته. ومع إسقاط حكومة فارس الخوري في 7 شباط (فبراير) 1955 كانت نهاية الليبرالية في السياسة السورية، إذ يعتبر باتريك سيل ذلك السقوط «احدى نقاط التحول» في السياسة العربية. فقد أمسك «اليسار» بزمام المبادرة وواجهت السياسة الليبرالية التقليدية في سورية إسدال الستار الأخير على تأثيرها الحقيقي والواقعي وتحولت مجرد أصوات منفردة ومتناثرة من دون أي أثر فاعل في الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية في سورية. بعد ذلك ستتعاقب وستتغير الحكومات بشكلٍ يدلُّ على عودة اللاستقرار السياسي مرةً أخرى. ففي أقل من ثلاثة أعوام ستتشكل ثلاث حكومات لن تُفلح في كبح جماح المد القومي الناصري واليساري، فقد كان عبدالناصر قد امتلك المشهد العربي بأكمله بعد خروجه منتصراً من العدوان الثلاثي عام 1956 وحصوله على تأييدٍ شعبي سوري منقطع النظير، وفقدت السياسة والسياسيون السوريون بوصلتهم وبدوا منبهرين بعبد الناصر ووقوفه في وجه الضغوط الغربية، فيمموا وجوههم صوبه تاركين وراءهم إرثهم الفكري والوطني والنضالي، فقد بدا عبد الناصر أرفع من التفاصيل الصغيرة التي انشغل بها السياسيون السوريون طويلاً وأوقعتهم في وحل السياسة الفاسد، كما أنه أظهر ممانعةً في وجه الضغوط الغربية التي لم يُحسن السوريون الوقوف في وجهها أو الوصول إلى ميثاقٍ وطني يحصنّهم ضدها، وعندها لم يخطر على بال أي سياسي سوري مناقشة شرعية الوحدة على ضوء أو هدى الدستور السوري، وهل يسمح بذلك أم لا.

ووصل النظام في سورية إلى مرحلة انحلال سياسي كامل، وعلى رغم تحفظات خالد العظم عن هذه «الاندفاعة اللاعقلانية»، فإن صوته كان نشازاً ومنفرداً أمام حشدٍ هائل من المثقفين والسياسيين رأى في الوحدة إنقاذاً لسورية من الضياع في وجه مؤامرات دولية (مبدأ أيزنهاور وحلف بغداد) وأحلافٍ إقليمية (من شرق الأردن مروراً بالعراق وانتهاءً بمصر والسعودية). وليس بعيداً من ذلك كله تهديداتٍ عسكرية إسرائيلية مستمرة وضغوطاتٍ حدودية تركية. لقد كان تأييد الوحدة كاسحاً لدى المثقفين الحزبيين والمستقلين الذين بدأوا بالظهور حديثاً بحكم اتساع رقعة التعليم نسبياً والتوجه نحو حقول معرفية جديدة. ويندر أن نجد مثقفاً اتخذ موقفاً معارضاً أو مشككاً، فالوحدة كانت حلاً نهائياً لكل الأمراض السورية كما تخيل ذلك السياسيون السوريون، ولكن ما إن بدأ وهج الوحدة السورية - المصرية بالذوبان تدريجاً وهجها في عيون السوريين نتيجة عوامل متعددة ليس أولها الرقابة البوليسية وليس آخرها التدهور الاجتماعي والاقتصادي الذي عاشه السوريون، حتى بدأت الأحزاب السياسية التي أُجبرت على الخضوع إلى قرار الحل بالتململ والشعور بخطأها التاريخي عند قبولها حل نفسها بنفسها كما حصل ذلك مع حزب البعث.

ومع الانفصال جرى الخلاف حول أي دستور نعمل به. ولم يطل الخلاف طويلاً حتى جاءت حركة 8 آذار (مارس) 1963 لتنهي النقاش الدستوري ولتؤسس وعياً انقلابياً. فالفترة بين 1963 و1973 لم تجر أية انتخابات – ولو شكلية – إذ لم يكن البعثيون يشعرون أنهم في حاجة إلى الانتخابات لتحصيل شرعيتهم.

عندما وضِع الدستور الدائم في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد أعطي الرئيس صلاحيات تصل إلى حد حل مجلس الشعب وممارسة التشريع في غيابه. فرئيس الجمهورية هو رأس الدولة وهو الأمين العام لحزب البعث الحاكم وهو رئيس الجبهة الوطنية التقدمية وهو القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، وهو الذي يعيّن نوابه ويعزلهم، ويعين رئيس الوزراء ونوابه وأعضاء وزارته، ويعين كبار الموظفين المدنيين والعسكريين. ومجلس الوزراء بما فيه رئيسه مسؤول أمام رئيس الجمهورية. كما يصدر الرئيس القوانين التي يقرها مجلس الشعب ويمكنه نقض هذه القوانين. ويتولى مسؤولية السلطة التشريعية عندما لا يكون مجلس الشعب في دور انعقاد شرط أن تحال كل التشريعات التي يصدرها إلى مجلس الشعب في أول دور انعقاد له. ويمكن لرئيس الجمهورية تولي السلطة التشريعية حتى في أثناء دور انعقاد مجلس الشعب في سبيل حماية المصلحة الوطنية العليا «في حال وجود ضرورة مطلقة مرتبطة بالأمن القومي». ولا يمكن عزل رئيس الجمهورية من منصبه إلا بتهمة الخيانة العظمى. ولا يمكن محاكمة رئيس الجمهورية إلا أمام المحكمة الدستورية العليا التي هو عضو فيها.كما تمنح المادة 113 من الدستور رئيس الجمهورية سلطات واسعة في حالات الطوارئ.

لكن مواد الدستور بدت معطلة في ظل العمل اليومي بقانون الطوارئ، مما أفقد السوريين الفرصة في النقاش حول صياغة دستور عصري يكفل لهم حقوقهم ويوضح واجباتهم. واليوم نحن في حاجة إلى إعادة بناء الثقافة الدستورية من جديد إلى بناء وعي جديد بقدسية الدستور وموقعه في الوعي العام، وهذا لن يتأتى من دون نقاش حر ومسؤول من أجل صياغة دستور جديد.