يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية استفاقت أخيراً على حقائق ومخاطر الطائفية في العراق. وقد جاء على لسان السفير الأميركي في العراق زلماي خليل زاد أن الانتماء الطائفي والإثني كان له الدور الأبرز في انتخابات 15 كانون الأول (ديسمبر). كما عبّر الجنرال جون فاينز، قائد القوات الأميركية في العراق، عن خشيته من تعرض الحكومة وقوى الأمن للخطر بسبب «الخلافات الطائفية».

وسيتعيّن على المؤرخين القادمين القيام بمهمة عسيرة تقضي بمعرفة لمَ استغرقت إدارة بذلت جهداً مضنياً لتوفير كل الشروط لتأليف حكومة على أساس طائفي وقتاً طويلاً لتعي أخطار هذا الخيار.

ما من شك بأن شروط ترسيخ الهوية الطائفية والنزعة الانفصالية الكردية توافرت قبل الاجتياح البريطاني- الأميركي في 2003 بوقت طويل. فقد زرعت أولى بذورها على أقل تقدير عندما رد صدام حسين بعنف على الثورة الإيرانية، فهاجم قيادة حزب «الدعوة» أولاً، قبل أن يهاجم إيران نفسها. وقد تلا هذين الاعتداءين الهجوم على الأكراد أولاً والقمع العنيف للهجمات المضادة التي شنها الأكراد والشيعة ثانياً.

وكانت هذه المعلومات بمتناول كل من رغب في الإطلاع عليها في واشنطن، وإن لم يتلقَّ الكثيرون في الغرب كامل الأنباء عن تطور المنظمات الشيعية ومن ضمنها المنظمات التي قادها مقتضى الصدر في أحلك الأوقات في ظل العقوبات والبحث عن أسلحة الدمار الشامل.

بيد أن القادة الاميركيين والبريطانيين ارتأوا أن يصدقوا إمكان تطبيق نموذج بديل في عراق ما بعد الاجتياح، يتحد بموجبه جميع العراقيين، الذين جمعتهم المعاناة في ظل حكم صدام حسين، ليرحبوا بالقوات البريطانية - الأميركية باعتبارها المحرر، قبل أن يتعاونوا في ظل قيادة غير طائفية تضم جزئياً غالبية العلمانيين من أعضاء المجلس الوطني العراقي العائدين من المنفى.

لكن، ولأسباب ستبقى غامضة، قام بول بريمر ومستشاروه في سلطة التحالف الموقتة بانتهاج سياسات تقوم أساساً على الاعتراف بمختلف الأطياف العراقية، من طوائف وأعراق. وقد دفعت هذه السياسة بهم إلى الإصرار على صيغة التمثيل الطائفي عند تعيينهم أعضاء المجالس البلدية أولاً، والمجلس المركزي الحاكم في بغداد ثانياً. كما قادتهم السياسة عينها إلى حاضرة سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني الذي اعتبروه، عن حق، الرجل الوحيد القادر على إدخال الشيعة في النظام المقترح للانتخابات الوطنية. واستناداً الى المنطق نفسه، اقتنع البريطانيون بضرورة تسليم غير دائرة للخدمات المحلية في أيدي الأحزاب الشيعية التي أضحت تمسك بزمام المجالس البلدية في الجنوب في أوائل 2005. وأخيراًَ، دفع هذا المنطق بالقيادة البريطانية - الاميركية الى القبول بالتنازلات الضخمة لصالح السلطة الطائفية المحلية التي تضمنتها مسودة الدستور بعد التصويت عليها في آب (أغسطس) 2005.

ومن دون الاطلاع على الوثائق الرسمية لقوات التحالف الموقتة، يتعذر استيعاب السبب وراء كل هذه القرارات على رغم توافر أدلة كبيرة تؤكد مثلاً على نشوب حوارات حامية بين بريمر والسير البريطاني جيريمي غرينستوك، كما لا دليل ملموساً بعد لتفسير كيفية وضع سياسة تقلبت بين دعم الطائفية من جهة ودعم عراق متجانس سياسياً من جهة أخرى. ومن المستبعد ان تزودنا مذكرات بريمر بإجابات.

ومع ذلك، يبقى المجال مفتوحاً أمام بعض التخمين المطلع؛ إذ تتوافر أدلة الى أن بعض أعضاء السلطة الموقتة سرعان ما أدركوا مغالاة توقعاتهم الواثقة بشأن قدرتهم على تكوين عراق جديد على أسس الوحدة الوطنية والهوية العلمانية والنموذج الغربي لحقوق النساء كما أدركوا ضرورة تعديل هذه التوقعات. من جهة ثانية، تمسك جزء كبير من التحالف - ولا يزال - ولا سيما القوات الأميركية، بإيمانه بإمكان تكوين جيش يعكس، حسب تعبير أحد الناطقين باسم القوات، «التكوين الوطني» للبلد، وقادر في الوقت ذاته على أن يخدم كقوة فعالة تنتشر وحداتها بعيدا عن المقاطعات الأم.

مع ذلك يتملكني إحساس قوي بأن قوى أكبر تلعب دوراً في هذا الإطار، ومن ضمنها الحاجة السياسية الملحة الى تسريع عملية تسليم الأمن إلى العراقيين بأقصر المهل، استجابة للطلب الشعبي الأميركي والبريطاني المتزايد من أجل سحب معظم قوات البلدين. وعلى غرار سائر الأوضاع الشبه-استعمارية، يستدعي الوضع الراهن إيجاد أشخاص يمكن تسليمهم هذه المهام، أي جنود يمكن الاعتماد عليهم مثل مقاتلي البشمركة الأكراد، أو البريطانيين المتمرسين في هذا النوع من العمليات، وصولاً الى موظفي البلديات أعضاء الأحزاب الشيعية في الجنوب.

ويظهر من خلال التجربة الاستعمارية الجديدة أيضاً أن السياسة عانت من المزيد من عدم التماسك بشكل عام، وربما من المزيد من التناقض، وبشكل أكبر مما يبدو للوهلة الأولى. وقد تضاربت المصالح المدنية والعسكرية في معظم الأحيان، وينسحب ذلك أيضاً على مفهومي الحكم المباشر وغير المباشر المتناقضين. ومن أجل فهم السياسة البريطانية - الاميركية، لا بد أيضاً من فهم الانقسام بين من نظر إلى الناس المعنيين بمنظار الهوية الفردية ومن نظر إليهم بمنظار الهوية الجماعية. ويمكن تصور بعض المناسبات التي لم يتوان أحد كبار المسؤولين فيها عن استخدام المنطقين بشكل متلازم، فخاطب بحسب مقتضيات المناسبة تارة المواطن الفردي، وطوراً الشبكة الأوسع التي يظهر المواطن والمواطنة، انتماءهما إليها.

ويوفر بعض الروايات للتاريخ العراقي مصدراً عظيماً لمصالحة ظاهرية بين مفهومي الفرد والجماعة. ولو بدأ رجال كدونالد رامسفيلد الحملة بالتفتيش المحموم عن مؤلفات ككتاب الجنرال البريطاني أيملر هالداين «الثورة في بلاد ما بين النهرين 1920» - وهو مؤلف نادر يسعى جامعي الكتب الى اقتنائه، ولا شك في أنه فعل ذلك - لتمكنوا من استخدامها لتصور سيناريو تحوّل بموجبه القوى الغربية مجدداً الولاء القبلي والطائفي إلى هوية عراقية تتعالى فوق هذين الانتمائين، وهو أمر ينطبق على جندي في الجيش الوطني، أو عنصر من الشرطة أو مقاول حقق أرباحاً وأسعده دخول سوق وطني حقيقي بفضل الانهيار القسري لاشتراكية الدولة البعثية.

مدير مركز دراسات الشرق الاوسط في جامعة هارفرد.