بير رستم

يدخل المرء أحيناً في سجالات مع الآخرين وذلك دون أن يخطط لذلك وها إنني أجد نفسي في موقف مماثل في الرد على السيدين أنور بيجو وفيصل قاسم، حيث لم أعلم إنني باشتراكي في نشرة سورية الغد أمهد لهذا الشيء وإنني قد فتحت على ذاتي كوات عدة، لا أقول إنني بغنى عنها ولكن أقل ما يقال فيها إنها تستفذك في أكثر الأحيان عندما تجد من يريد أن يطمس الحقائق أو يلوي عنقها لتكون حسب أهوائهم ومقاساتهم، وهذا ما تلمسناه لدى كل من المذكورين في مقالين لهما على نشرة سورية الغد، وذلك في العدد 27 تشرين الثاني لعام 2005 بعنوان "التأسيس... المضحك المبكي...!!" و "لماذا وحدتهم الوطنية مقدسة ووحدتنا مدنسة" وذلك على التتابع لكل من السيدين.

ما يلفت الانتباه هو محاولة بعض المثقفين والسياسيين العرب والمحسوبون على التيارات الثلاث، القوميون والإسلاميون التكفيريون وأخيراً بقايا التيار الماركسي اللينيني، وحتى لا يمسك علينا بواحدة ويقال: ألست من هذا التيار الأخير وأنت تنعتهم بهذه الصفات، فنقول: بلى ولكن نجاهد بأن لا نكون من التيار الستاليني ذات الفكر الواحد والحزب القائد والزعيم الخالد، بل نحاول أن نقرأ الواقع على ضوء معطيات اليوم وما يرافقها من تغيرات على كافة الأصعدة، والكف عن لغة التكلس، ولم نقل اللغة الخشبية كي لا يتحسس السيد أنور بيجو، مع أن للخشب عيوب كثيرة كما أن له فوائد عدة ولكن عليك أن تعرف كيف تستخدمه.

نبدأ مع السيد أنور بيجو ومقاله التأسيس... المضحك المبكي..!! ما يلفت الانتباه هي تلك اللغة التهكمية الشتائمية وهي من المآخذ عليه وهو الذي عنون مقاله باسم التأسيس، فالذي يود أن يؤسس لأمر ما عليه أن يتحلى بأخلاق سمحة وأن يكون صدره واسع للجميع وأن يتقبل الآخر مهما كان هذا الآخر يخالفنا في الرأي والقناعات وإلا فإن كل منا يتخندق في موقعه ويكيل التهم على الآخرين ونبقى ندور في دوامة العنف والتنكيل بالآخر. فهو يكتب في بداية مقاله: " والتأسيس عملية معروفة أنها ( الخطوة الأولى ) في قيام أي شأن ، وحين تكون هذه الخطوة ، هي الأولى في عملية بناء ، فإن المهندس يخرج مع صاحب المشروع إلى موقع المشروع ليتفقّد الأرض ومدى صلاحيتها للتأسيس ، وغالباً ما يكون الطلب إلى صاحب المشروع أن يجرّف الطبقة العليا من الأرض، لأنها غير صالحة للتأسيس ، وتستمر عملية الجرف حتّى الوصول إلى طبقة تربة قادرة على تحمل أوزان البناء المزمع إنشاؤه . وفي الغالب ، أيضاً ، ما تكون قطعة الأرض هذه مكبّ نفايات للجيران والحي القريب منها ، مما يستدعي عملية إضافية أيضاً ، وهي إزالة هذه النفايات".

نحن نسأل: هل يمكن التعامل مع هذا الخطاب الذي يصف الآخر المغاير بالنفايات مع أنه لم يتكرم علينا بتوضيح من هو الذي وصفه بالنفايات، ولكن عندما نتقدم خطوات أخرى مع المقال تتوضح لنا الصورة تماماً، وذلك عندما يكتب ويصف كل من شارك في مؤتمر الوفاق الوطني العراقي بـ" فسيفساء النفايات" ، أي كل من له صلة بالعملية السياسية الجارية في العراق، وهكذا لا يبقى في العراق غير البعثيين والزرقاويين الذين لا ينتمون إلى "فسيفساء نفايات" السيد أنور. لسنا هنا بصدد الدفاع عن المعارضة العراقية بكوردها وعربها فلهم أقلامهم وأبواقهم وهم أدرى بما لديهم، ولكن نسأل الأخ أنور ألا تعتقد أنك تدافع عن طاغية حكمت العراق لأكثر من ربع قرن بقوة الحديد والنار وأنك تحكم على أكثر من سبعون بالمائة من الشعب العراقي على أنهم فسيفساء من النفايات، كونهم هم الذين أوصلوا هذه "الطبقة العليا" إلى سدة الحكم وأعطوهم زمام الأمور. ثم ما هو الخطأ في أن يكون العراق " عربي / كردي / تركماني / آثوري / كلداني / صابئي / سنّي / شيعي / مسيحي / عشائري / قبلي ........". أم تريده عراق عربي اللسان والهوية وليمت الحاسدون في "كيدهم" وذلك على الطريقة الصدامية. أليس العراق كان ولا زال هكذا عبارة عن فسيفساء من الأعراق والطوائف والأديان والمذاهب، وما الضرر في ذلك، أم يجب أن يكون هناك عرق واحد وثقافة واحدة وحزب واحد وزعيم أوحد على شاكلة آلهة الأديان السماوية والأرضية.

إذا كنا نأخذ هذه المآخذ على الأستاذ أنور فعلينا أن نعترف بأنه كان يؤسس ببراعة لهذه الخاتمة لمقاله عندما يطرح علينا مجموعة أسئلة أو بالأحرى على المعارضة السورية بشقها العربي ودون أن ينسى أن يحمل تلك الأسئلة مجموعة أفكار ومدلولات وأن يحذرها من "الألغام" التي تزرع في طريقها فهو يكتب: "هل يمكن للشعب السوري في الشام ، أن يتصور مشهداً مماثلاً ( لمندوبي ) طوائفه ومذاهبه وعشائره وقومياته ....... هل نحن كذلك أو يمكن أن نكون كذلك ؟؟؟ هل يدرك الشعب السوري في الشام ، أن ألغاماً كثيرة قد زُرعت في طريقه، وأن ألغاماً كثيرة ستُزرع، فهل سيفوّت الوقت أيضاً وأيضاً حتى يدخلَ حقل الألغام الجهنميّ ؟؟"

أولاً علينا أن نشكر الأخ أنور أنه يقر بأن سورية متعددة المذاهب والطوائف والقوميات، مع العلم، أنه يعود ويستدرك هذه "الهفوة" عندما يتسائل باستفهام: " هل نحن كذلك أو يمكن أن نكون كذلك ؟؟؟" وكأن سوريا ليس ببلد متعدد القوميات ولأعراق والطوائف والأديان. وإن كان من حسنات هذا العصر إنه حقق لمجموعة "الأقليات"، في الشرق، حق الوجود والاعتراف بها على عكس ما كان سائداً في القرون الماضية ولكن ما يؤخذ على الأستاذ أنور، كما هي صفة كل من يحمل الفكر العقائدي الواحد الأحد، أنه لا يتقبل وجود الآخر على قدر المساواة، فهو وإن كان يقر بالوجود الطبيعي البيولوجي لهذه "الأقليات"، الكورد مثلاً، فإنه يستنكر عليهم مسألة التمثيل السيادي ويجد إن هذه المسألة كبيرة عليهم، فهو لا يتقبل حتى فكرة مندوبين عنهم في المحادثات والمشاورات التي ربما ستجرى في المستقبل، فأي عقلية إقصائية هذه وكيف يمكن التعايش معاً تحت سقف واحد وضمن بلدٍ واحد.

وأخيراً نقول له: لا يا "سيدي" هذه ليست بالغام زرعت في طريقكم ولن يزرع أحد ألغام أخرى في طريقكم، بل هي قضايا ومسائل سياسية شائكة لم تحل على مدى عقود وعقود ومنذ استقلال بلداننا وهي بحاجة إلى وقفة جدية مع الذات والواقع لكي نأخذ العبر والدروس ونتمكن معاً من إيجاد الحلول لمجموعة القضايا هذه، وإلا فسوف تدوم وتدوم دوامة العنف في الشرق، كما ذكرنا سابقاً، وسوف تكون هناك المزيد والمزيد من الضحايا ومن الجانبين وهذا ما لا نريده لأحد مهما أختلف معنا في رأيه وقناعاته. أما إذا أردت أن تبقى على لغة الألغام فنحن بدورنا نقول لك: بأنك أنت من أتيت إلى حقل الألغام برجليك, ولسنا نحن من زرع الألغام في طريقك وفهمك للمسألة كفاية.

أم الأستاذ فيصل قاسم يبدأ مقاله بسرد قصة الوزيرة البريطانية، التي أرادت أن تبين لجمهور من الأصدقاء والصحفيين، كم هي سمجة وذات ظل خفيف، فتلقي عليهم نكتة سخيفة عن الباكستانيين، فتتلقفها الصحافة البريطانية وأخيراً تفقد الوزيرة منصبها بسبب ذلك. ويضيف أيضاً بأن (للحكومة البريطانية وغيرها من الدول الأوروبية قوانين صارمة جداً لمكافحة العنصرية والطائفية والتحزب العرقي والديني، بحيث غدا النيل من الأعراق والطوائف والإثنيات والديانات في البلاد جريمة يُعاقب مرتكبها عقاباً أليما"). دون أن ينسى على التأكيد بأن هذه الحكومات لم تلتزم بقوانينها ودساتيرها (إن التفرقة العنصرية ما زالت متفشية في الغرب بطريقة بشعة).

وهكذا نفهم ومن خلال سياق المقال بأن ذاك ليس أفضل من هذا وأن حالهم كحالنا وأن "كلنا في الهوى سوى" وبالتالي يحاول أن يؤسس، على الأقل هكذا فهمت أنا، لفكرة أن الغرب بما تعنيه من حريات وقوانين تنبنا عليها حقوق الأفراد والمجتمعات ومسائل الأقليات وما تقوم بها مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني من دور في هذه المسائل العالقة، ليس بأكثر من زوبعة إعلامية، ينساها الجمهور مع انتهاء احتسائهم لفنجان قهوتهم. وهو لا يكتفي بهذا فقط وإنما يتلاعب بالألفاظ، وحتى نكون منصفين نقول: إن هذه صفة كل من يشتغل على الكلمة وليست خاصية فيصل قاسم وحده، فهو يكتب: ( لكن الأكيد في الموضوع أن الشحن الطائفي والعرقي والإثني والمناطقي والديني ممنوع منعاً باتاً في الغرب وأن أي محاولة لشق الصف الوطني أو إضعاف التلاحم الاجتماعي جريمة لا تغتفر في الأقاليم الغربية. إن الوحدة الوطنية في أوروبا وأمريكا شيء مقدس والويل كل الويل لمن يحاول التلاعب بها). وهكذا يفهم من المقال بأن كل نشاط قائم على هذه الخصوصيات في الغرب تعتبر جرائم لا تغتفر وهي بمثابة "الخيانة الوطنية".

أولاً لنتفق ما هو الوطن، هل هو الخريطة المدرسية والتي كانت تعلق في صدر السبورة مع دخول أستاذ الجغرافية إلى الصف، أم هو مجموعة المساحات الشاسعة من الأراضي والوديان والتلال والكثبان الرملية وما يعرف بالمياه الإقليمية وإلى ما هنالك من التضاريس والتعاريف الجغرافية، أم هو مجوع الناس والأعراق والطوائف والاقليات التي تتعايش ضمن هذه الجغرافية، أم هو جملة القوانين والدساتير والأعراف التي تتحكم في سيرورة حياة هذه الجموع البشرية، أم هو... . لعل الوطن هو مجموع كل هذه الأشياء وذاك، ولكن وحسب فهمنا للوطن، هو ذاك الشيء الذي يحقق لي الكرامة الإنسانية، نعم يا "سيدي"، إننا في هذا الشرق الموبوء بالكراهية بحاجة إلى أوطان حقيقية، تحقق لنا العيش اللائق بكرامة البشر دون الخوف أن نقتل أو نعتقل على الهوية، ودعك من تلك المفاهيم النخبوية والتي استهلكت في أفواه النخب السياسية والثقافية، والدعوة إلى وطن قومي للعرب يضمهم من المحيط إلى الخليج ووطناً لبني إسرائيل من الفرات إلى النيل، وآخر باسم كردستان، والتي هي غير معرفة حتى إلى الويندوز العربي، ناهيك عن الشعب العربي والإعلامي "المشاكس" فيصل قاسم، "بتنا نسمع عن كردستان العراق" هكذا يستفسر السيد فيصل قاسم وكأن كوردستان كان مارداً مخبأ ً في قمقم علي بابا وخرج في رمش عين ليفاجأ فيصل قاسم.

ثم هل نفهم أن تلك المقدمة عن الغرب ودجلها وريائها في مسائل الحريات وحقوق الإنسان، كان تأسيساً ومدخلاً للدفاع عن الأنظمة في الشرق المستبد، ولم نقل الأنظمة العربية أو الإسلامية المستبدة، لكي لا نجعلها خاصية شعب أو أمة بذاتها دون سواها في الشرق الغارق في تاريخ من الاستبداد والطغيان. بالتأكيد نحن لا نريد أن نبرأ الغرب تماماً، لا من ما كان لهم من دور في حماية هذه الأنظمة المستبدة بشعوبها ولا من ممارساتها من استبداد تجاه بعضها البعض أو ضد الشعوب المغلوبة على أمرها، ولكن من الإنصاف والحكمة أن نقر ونعترف بأن الغرب قد قطعت أشواطاً بعيدة في جعل بلدانهم ودولهم دول مؤسسات وليس مزارع وملكيات خاصة لهذا القائد والزعيم أو لذاك الشيخ القبلي-العشائري. فمن يعود إلى مقال السيد فيصل قاسم يتأكد مما توصلنا إليه بل هو يقول دون مواربة أو حتى أن يرمش له جفن "لكن في الوقت الذي تحافظ فيه الدول الغربية على نسيجها الوطني واللحمة الداخلية وتحميهما من التفكك بضراوة عز نظيرها نجد أن التلاعب بالوحدة الوطنية في العالم العربي أسهل من شرب الماء. فقد قام الغزو الأمريكي والبريطاني للعراق في المقام الأول على سياسة "فرق تسد" التي كما هو واضح حولت العراق إلى ملل ونحل وطوائف ومافيات متصارعة ومتناحرة بعد أن كان العراق يفخر بأنه لم يعرف التمييز بين عرق وآخر أو طائفة وأخرى على مدى أكثر من ثمانين عاماً. وبينما ترفض أمريكا رفضاً قاطعاً السماح لأي إقليم بالانفصال عن المركز نرى أن واشنطن ولندن لا هم لهما سوى تشجيع مكونات الشعب العراقي على الانفصال والتشرذم بحجة الفدرلة حتى بتنا نسمع عن كردستان العراق والإقليم الشيعي والمثلث السني وغيرها من التسميات الانفصالية البغيضة".

يقولون بالكوردي "شاباش" وها نحنا بدورنا نقول للأخ فيصل شاباش على هذه القراءة للواقع السكاني والجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط وأيضاً لهذه الرؤية القومجية وليست القومية، فمن وجهة نظره قامت القوات الأمريكية والبريطانية بتفكيك الشرق (العراق أنموذجاً) "إلى ملل ونحل وطوائف ومافيات متصارعة ومتناحرة" وكأن العراق لم يكن كذلك وهو الذي يقول ويؤكد على ذلك، عندما يبرأ الأنظمة العراقية المتعاقبة من الملكية الدستورية إلى الجمهورية البعثية الصدامية، من كل ذاك التاريخ الدموي الإجرامي وبجرة قلم منه وكأن ذاكرة الشعوب من غبار تطمس المعالم والمقابر والأنفال في لحظة نسيان أو غفوة بشرية وذلك عندما يقول: "كان العراق يفخر بأنه لم يعرف التمييز بين عرق وآخر أو طائفة وأخرى على مدى أكثر من ثمانين عاماً". أي تناقض وأي غبن وإجحافاً بحق التاريخ والشعوب والعوائل العراقية ولا أقول فقط الكوردية أو الشيعية، الذين قضوا نحبهم في الزنازين والمقابر الجماعية إن كان في الأنفال وحلبجة أو في انتفاضة الجنوب، بل وكأن العراق لم تعرف كل تلك الحروب الطاحنة بين الملل والنحل الإسلامية ومن قتل "أهل البيت"، ناهيك عن المعارك والويلات وسياسة الأرض المحروقة والتي كان الطاغية صدام حسين والطغمة المستبدة يشنونها على الكورد وكوردستان العراق بحيث أحرقوا الأخضر واليابس ونادراً ما كنا نسمع صوت إعلامي كفيصل قاسم ينقل لنا الخبر وليس للدفاع عن هذا الشعب المغلوب على أمره.

يا "سيدي" إن كانت "التسميات" من نوع "إقليم كوردستان أو فدرالية الجنوب أو المثلث السني" هي من "التسميات البغيضة" على مسامعكم فهل تدخل المسميات من نوع الوطن العربي وبترول العرب للعرب والجامعة العربية وإلى ما هنالك من المسميات التي تؤكد على الخصوصية العربية ضمن هذه "التسميات البغيضة" إليكم أم هذه من "المقدسات" والتابوات المحرمة و"المنزهة" عندكم. فواحدة بواحدة إما كل منا يؤكد على خصوصيته القومية الإثنية والطائفية الدينية أو يكون الوطن للجميع والدين لله والقومية للبشر، بما معناه سوريا هو وطن السوريين مهما كانت قبائلهم، قومياتهم، دينهم ومذهبهم وتلونهم السياسي ومن حق الجميع أن يمارس كل خصوصياته، كما في الغرب، ويكفل الدستور السوري ذلك دون اضطهاد وإجحاف من جهة تعتبر الوطن ملكية خاصة بها، وبأن سوريا ليست ذات هوية عربية فقط كما يحلوا لبعض القومجيين السوريين، أو يقوم كل منا بممارسة حقه في الوجود والدفاع والتقوقع حول هذه الخصوصيات والانغلاق على الذات، في وقت نحن بأحوج ما نكون إلى الانفتاح على الآخر وإقامة تكتلات اقتصادية-اجتماعية على غرار الاتحاد الأوربي، ولن نقول الشرق الأوسط الكبير حتى لا يتحسس القوميين العرب ومنهم فيصل قاسم. إذاً أعطيني وطناً حقيقياً لأعطيك الخصوصية التي تجعل منا ملل ونحل متناحرة ومتصارعة على كل شيء.