تتصدر ايران على مدى الاسابيع القليلة الماضية كافة النشرات الاخبارية والتعليقات. وفي الوقت الذي تتوعد الادارة الامريكية بإحالة الملف الايراني النووي الى مجلس الامن، يبدو ان الاتحاد الاوروبي وكذلك الروس في حالة ارتباك، طارحين باستمرار مصالحهم الاقتصادية بذرائع متعددة، وذلك في الوقت الذي تتصاعد لهجة الرئيس الايراني ضد الكيان الصهيوني وضد السياسات الغربية الجائرة، معززاً ومؤكداً اصرار ايران على المضي قدماً في الاستفادة من الطاقة النووية لأغراض سلمية، وقد يكون لأغراض عسكرية في المستقبل.

الموقف العربي عموماً يكتنفه الغموض، وجاءت تصريحات وزير الخارجية السعودي، في مؤتمر لندن لمكافحة الارهاب، لتقدم اشارة ايجابية ورؤية استراتيجية للملف النووي عموماً في المنطقة، عندما ربط الملف النووي الايراني بالملف النووي “الاسرائيلي” الواقع في القلب من المنطقة العربية، والذي يهدد بوجود العشرات، اذا لم يكن المئات من القنابل الذرية المملكة العربية وعموم منطقة المشرق العربي، ومصر وايران وتركيا ايضاً.

أما في عدد من المؤتمرات الخليجية، فقد تم ترديد القلق الخليجي من وجود المفاعل الذري الايراني في بوشهر، حيث احتمالات الخطر كبيرة على الدول الخليجية الساحلية، اي كل مجلس التعاون الخليجي.

لكن ليس هنا بيت القصيد، بالنسبة للغرب، حيث البشر ليسوا سوى أرقام في لغة الامريكيين والاوروبيين، وحيث انهم سكتوا على الخطر النووي “الاسرائيلي”، فإن الغضب من الملف النووي الايراني له ابعاد اخرى تتجاوز الخطر النووي على المنطقة، فكل بلد يمتلك السلاح النووي يحمل في احشائه هذا الخطر بما في ذلك روسيا وأمريكا والآخرون.

هذا يعيدنا الى فترة شاه ايران، ودعواته المتكررة بأن النفط مادة استراتيجية لا يجب حرقها، بل الاستفادة منها في الصناعات البتروكيماوية المتعددة التي ستغير واقع المنطقة برمتها، وكان توجهه لبناء مفاعلات ذرية للاغراض السلمية او العسكرية، حيث من يمتلك امكانيات التخصيب يمكنه امتلاك القنبلة، واذا حصل على الصواريخ الحاملة لهذه القنابل، فإن خطر توصيلها الى الخصم يعتمد على مدى تلك الصواريخ وليس على وجود او عدم وجود القنبلة لديه.

وهذا يعيدنا قليلاً الى الوراء، عندما تدفقت الشركات النفطية الغربية الى منطقة الخليج، فاكتشفت ثروة لا تقدر بثمن، ووجدت ان من اخطاء الطبيعة انها اختزنت هذه الثروة هنا، وليس في الاراضي الامريكية، او الاوروبية، ولذلك كانت الاتفاقيات المجحفة والاسعار المجحفة، وحرق الغاز المجحف... الخ من ملف اسود للشركات والحكومات الغربية التي لم تتردد في تدبير الانقلابات العسكرية لأي نظام في المنطقة فكّر بتحرير النفط من قبضة هذه الاحتكارات، حتى توصلنا الى الموقع الراهن.

لكن الغرب يرى أن النفط سينتهي وأن كافة الدول الغربية تفكر منذ فترة طويلة بالبدائل، لكن ليس من حق الدول المنتجة من العالم الثالث ان تفكر بالبدائل، بل عليها من الآن ان تستعد لقبول الشروط الغربية للاستفادة من الطاقة التي يريد الغرب احتكارها، وهنا تأتي الطاقة النووية للاغراض السلمية.

يصر الغربيون على ان يحتكروا تخصيب اليورانيوم، بحجة انهم مصدر الحكمة والحريصون على سلامة العالم، وان الدول الاخرى كإيران وفنزويلا والسعودية لا يملكون الحكمة، وقد يتهورون وقد يخلقون معادلات اقليمية، وقد يقررون رفض الكيان الصهيوني برمته، وإيجاد حل انساني للمسألة اليهودية تنطلق من رفض فكرة الدولة العنصرية الاستيطانية، او الغيتو ليهود العالم، حيث تبرز بجلاء المواطنة المعولمة، وبالتالي لا معنى لدولة تحشر فيها كل يهود العالم، او دولة لشيعة العالم، او دولة للموارنة او دولة للسنة (كما يفكر الامريكيون للمشرق العربي ضمن خطط دمقرطة المنطقة عبر طأفنتها!).

بالتالي فإن الغرب قد تراجع عن حق الدول المذكورة في الاستفادة من الطاقة النووية، لكنه يريد ان يحتكر مصدر هذه الطاقة وان يتم التخصيب في روسيا او الاتحاد الاوروبي او امريكا، بحيث تنقلب المعادلة النفطية، وتكون الطاقة النووية ورقة المساومة القادمة، بيدهم بعد ان باتت الطاقة النفطية الى حد ما في يد هذه الدول الخليجية (مع الاشارة الى الحماقة الامريكية في احتلال افغانستان والعراق للسيطرة على

النفط، وتهديد المناطق النفطية الواعدة في عموم المنطقة).

أين تكمن مصلحتنا القومية العربية، أليس في تعميق العلاقات مع الجار الايراني، وندخل في محادثات معمقة ومتشعبة، حول مختلف القضايا بما فيها الملف النووي؟ بحيث تكون المصالح الاقتصادية والأمنية لحوض الخليج، ولن نتحدث عن عمق العلاقات التاريخية بين الأمتين الجارتين، هي المرتكز في الموقف العربي عموماً والخليجي خصوصاً.

من هنا تكمن اهمية الموقف السعودي، عندما اشار الى ان جوهر الإشكالية هو سكوت الغرب عن جرائم وخطط الكيان الصهيوني، وأنه لا يمكن الحديث عن الملف النووي الايراني قبل الحديث عن الملف النووي “الاسرائيلي”، وأن من حق العرب والايرانيين والاتراك وغيرهم امتلاك الطاقة النووية للاغراض السلمية، قبل ان نجد انفسنا مكبلين بما لا نطيق بالشروط الغربية حيال اي توجه عربي او غيره لامتلاك هذه الطاقة.

الغرب يخاف على الكيان الصهيوني من السلاح النووي الايراني، والغرب لايريد لدولة من الدول المعادية له ان تتحرر في قضية الطاقة، ولا يريد لأية دولة أن تملك قرارها المستقل، لكنه ايضاً سيقدم الكثير من المساومات للدول المصممة على رفض شروطه، من جيوب الدول الخائفة او التي تسير في ركابه.