كانت الحجة القائلة بضرورة تحقيق نصر حاسم في العراق، للحيلولة دون قيام خلافة إسلامية جديدة، متعددة القوميات ومسلحة نووياً في منطقة الشرق الأوسط، إحدى الأفكار الأساسية التي وردت في حديث الرئيس الأميركي جورج بوش أمام الحضور في ’’يوم قدامى المحاربين’’ الذي أقيم خلال الآونة الأخيرة•
وفي ذلك التوقيت بالذات، جاء تحذير بوش من مغبة قيام إمبراطورية شمولية إسلامية جديدة، تمتد من حدود إندونيسيا وحتى أسبانيا، خليطاً من أشواق وطموحات وأوهام تنظيم ’’القاعدة’’ التي لن تتحقق مطلقاً، ومن دس كتّاب الخطابات الرئاسية في البيت الأبيض، ممن تعمدوا زرع بذرة الخوف والذعر في نفوس الأميركيين من خطر الإرهاب ’’الإسلاموي’’، خاصة في ظل ما تشهده شعبية الرئيس بوش وحربه على العراق، من تراجع حاد، حسبما أشارت كافة استطلاعات الرأي التي جرت مؤخراً•

تعليقاً على ذلك، كتبت إليزابيث بوميلر، الصحفية في جريدة ’’نيويورك تايمز’’ الأميركية، واصفة فكرة إثارة حجة مختلقة عن خلافة إسلامية جديدة، ليس لها من وجود على الأرض، بأنها جزء متعمد من الحملة الدعائية الرئاسية التي يقودها البيت الأبيض•

ولكن هل في مقدور أحد أن يصدق أنه سيكون في وسع الجهاديين والإرهابيين الإسلامويين -حتى لو تسنت لهم السيطرة التامة على العراق- أن يجتاحوا أوروبا الجنوبية والجزء الغالب من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، علاوة على كل الجزء المسلم من القارة الآسيوية، ويحتلوها بجحافلهم وجيوشهم؟ كيف لفكرة كهذه أن تتحقق، وكيف يمكن تصورها بمنطق الأشياء والعقل؟
ولكن إياك أن تقلل من أمثلة وشواهد التاريخ الدالة على قدرة البشر -وأكثر الشخصيات جدية ومسؤولية بينهم- على قول كل شيء وتصديق كل شيء، ما أن يسخروا عقولهم وقلوبهم لتحقيق هدف ما• ولنا أن نستعيد هنا وقائع ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية نفسها خلال عقد الستينيات من القرن الماضي• ألم تعقلن وقتها الحكومة الأميركية انفعالاتها وحماسها لخوض الحرب الفيتنامية بالقول إنها وقفت حجر عثرة وسداً منيعاً أمام الصين -وليس فيتنام التي كان ينظر إليها حينها، على أنها مجرد دمية بيد الحكومة الشيوعية الصينية- وبالتالي أفلحت في الحيلولة دون تحقيق الاتحاد السوفييتي لمطامحه الرامية لاحتلال الولايات المتحدة الأميركية وبقية دول المعسكر الغربي الرأسمالي الصناعية؟!

وكيف لا تفعل الحكومة الأميركية ما فعلت، وقد جاءها النبأ القاطع من ’’لين بياو’’ وزير الدفاع الصيني وقتئذ، بتصريحه الشهير ’’إن في وسع العالم الفلاحي الفقير، أن يوفر القاعدة الثورية المتينة، القادرة على اكتساح جميع الإمبرياليين والرجعيين والثوريين التحريفيين وغيرهم من أعداء الحرب الشعبية، تماماً كما ينفض الغبار وتزال النفايات من وجه التاريخ’’• ولكن كان السؤال حينها: كيف لذلك التهديد الصيني أن يترجم إلى واقع وحقيقة ماثلة؟ وقتها كان للصين من العتاد الحربي أربع مدمرات، وعشر فرقاطات، وعدد قليل من الغواصات، وبعض الطائرات الحربية التي عفا عليها الزمن، إضافة إلى ما لها من جيش جرار مؤلف من الفقراء والفلاحين، كان يصعب عملياً ترحيله إلى أي مكان خارج الصين•
وعليه فما من سبيل واحد يجعل من الصين خطراً أمنياً -عدا لأقرب جيرانها- سوى معجزة إلهية ما تتحقق• لكن على رغم هذه الحقيقة، فلك أن تطالع خطاب وزير الدفاع الأميركي وقتئذ، روبرت ماكنمارا، الذي قدمه عن ميزانية وزارته للسنوات 1965-1968 أمام الكونجرس، لترى بأي جدية وأي صرامة، كان قد استقبل ذلك الخطر الصيني المزعوم•

والملاحظ أنه وخلال الآونة الأخيرة، مضى كل من الرئيس الأميركي جورج بوش ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، إلى جانب مستشاره للشؤون الأمنية ستيفن هادلي، وكذلك الجنرال جون أبي زيد، ونائب الرئيس ديك تشيني، وإريك إيدلمان، ووكيل وزير الدفاع للسياسات، وغيرهم إلى التحذير جميعاً من خطر قيام إمبراطورية إسلامية شمولية على امتداد الشرق الأوسط كله، قادرة على إلحاق الدمار بكافة الأنظمة الشرعية الحاكمة في أوروبا الغربية، وقارتي آسيا وأفريقيا•
وإمعانـــاً منه في تضخيــــم هذا الخطـر، صــرح الجنرال أبي زيد قائلاً: ’’مثلما أتيحــــت لنا الفرصة كي نتعلــم من لغة النازيين تبشيرهـــم بحربهـــم التي خاضوهـــــا ضد البشريــة كلهـا، فـإن علينــا أن نتعلم مــن جهاديي اليــوم ما ينوون فعلــه بنا، من خلال ألفاظهم ولغتهم أيضاً’’•

وهنــاك في بعض دوائر ’’المحافظين الجدد’’، من يتكهن بقيام هبة شعبية واسعــة من قبل الجاليـات المسلمة الكبيـرة، التي هاجــرت إلــى مختلف الدول الأوروبية• لكــــن وحتى في هـــذه الحالـــة، فإنه ما من سبيل ســوى المعجزة الإلهية وحدها، التي تمكن أقلية مسلمة صغيرة لا تساوي شيئاً يذكر من نسبة إجمالي سكــان أي من دول أوروبــــــا الغربية، من الإطاحة بحكومــة أي من الدول التي يتحــدث عنها ’’المحافظون الجدد’’• ولكــي لا يخلط هؤلاء أوراق الوهــم بالحقيقة، فليعلموا أنه لا صلــة البتة لما شهدتـه فرنسـا مؤخراً مــن أحداث شغب وعنـــــف، مـــن قبل المهاجرين المسلمين بالدين•

بل إن من الواجب أن يدرك الواهمون ومروجــو بضاعة الخوف، أن الدافـع الرئيسي والوحيد لتلك الأحداث، إنمــا هو الظلم والتمييز الاجتماعي والاقتصادي ضد المهاجرين• وكانـت تلك الأعمـال، تعبيراً عن مشاعـر الغضب من الشعور بالعزل والإقصاء، ومن ندرة الوظائف وفـرص العمل المتاحــة للمهاجرين، علاوة على الشعور الطاغــــي بالتعصب والتمييز ضدهم في كـل شيء• إن إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش لا تروج اليوم إلا للهراء، مثلما روج ماكنمارا من قبل لوهم الخطر الصيني• ولكن المصيبة أن هناك من يصدق في كلتا الحالتين!