التفكير الاستراتيجي العميق في المستقبل البعيد لكل من إيران وسورية و «حزب الله» اللبناني سيخلص الى استنتاجات واقعية هي أن الوسيلة الوحيدة لإمكان امتلاك إيران القدرات النووية لاحقاً هي لجم التصعيد والتهديد والتحالفات الخاطئة، والعودة الى التفاوض على الملف النووي من موقع دولة ذات وزن اقليمي تُحسن استخدام أوراقها في الوقت المناسب بحكمة وحنكة ورؤيوية.

منطقياً، يجب أن يؤدي هذا الاستنتاج بـ «حزب الله» الى إدراك هشاشة قيمته في الحسابات الإيرانية واحتمال اضطرارها الى التضحية به في موازين «المقابل» من أجل موازين القوى. وهذا يعني أن على «حزب الله» إعادة النظر في مقومات وجوده من معادلة واضحة جوهرها أن نزع سلاحه آتٍ بصورة أو بأخرى، فمن الأفضل له أن يعزز انخراطه السياسي في بلاده بدلاً من التضحية بالانجازات التي حققتها الطائفة الشيعية في لبنان بأخطاء يرتكبها. ويعني أيضاً أن على القيادة السورية أن لا تراهن على استعادة دورها كمالك للورقة الإيرانية في منطقة الخليج، إذ أنها قد تصبح الشوكة في الخاصرة الإيرانية التي قد تضطر طهران الى اقتلاعها.

لا يزال وارداً جداً أن يتخذ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد قرار استدعاء الحرب الاقليمية من أجل حشد المشاعر الإسلامية والعربية وراء الزعامة الإيرانية للقضايا الإسلامية والعربية. وعليه، لا يزال في قائمة الخيارات الإيرانية خيار تصعيد المواجهة مع الغرب، بدلاً من احتوائها، مما يتطلب تعزيز المحور الثلاثي بين طهران ودمشق و «حزب الله».

هذا الخيار يستدعي، بكل تأكيد، استخدام لبنان ساحة أساسية بقرار تتبناه إيران وسورية وينفذه «حزب الله» في لبنان. الطرفان الرئيسيان اللذان يتبنيان مبدأ «علي وعلى أعدائي» في مثل هذا السيناريو هما النظام السوري و «حزب الله»، إذ أن اندلاع الحرب الاقليمية سيؤدي الى التنفيذ الحرفي لناحية «عليّ» في عبارة «عليّ وعلى أعدائي». لذلك، ليس حكيماً لأي من الطرفين العربيين في المحور الثلاثي أن يحتفيا بالحرب التي قد تستدعيها إيران لأهداف الزعامة في العالمين الإسلامي والعربي.

صحيح أن «حزب الله» يستفيد من الزعامة الإيرانية، لكن الحرب التي تتطلبها هذه الزعامة في حال تبني طهران لخيار الحرب ستؤدي الى انهاء «حزب الله» وليس فقط الى تدمير لبنان.

صحيح أن دمشق قد ترى في الحرب الاقليمية أفضل وسيلة لصد الضغوط الدولية عليها، إنما لا حرب ستعفي النظام السوري من المحاسبة إذا ثبت أنه اختلق حرباً أو احتضنها للتغطية على تورط القيادات الأهلية وغيرها في سلسلة اغتيالات، أبرزها اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري.

الطبقة الحاكمة في إيران تفهم ذلك تماماً. لذلك، وحتى عندما يقوم الرئيس الثوري أحمدي نجاد بزيارة دمشق في عز التحقيق الدولي، فإن طهران ستنصاع للاستنتاجات وعواقبها إذا ما خلصت «اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق» الى تورط النظام السوري بجريمة ارتكاب العمل الإرهابي، فطهران تعرف مصلحتها وتعرف متى تُقدم ومتى تتراجع عن الإقدام.

تعرف مَن يشكّل دخيرة لها ومَن بات عبئاً عليها. «حزب الله» دخل خانة العبء بعدما كان الذخيرة لإيران. فهو يقاوم قرارات دولية مُلزمة لا مفر من تنفيذها. طهران تفهم الاضطرار للرضوخ للقرارات الدولية، فهي فعلت ذلك مجبرة، ما أدى بآية الله الخميني للقول إنه يوافق على القرار 508 وكأنه يتجرع «كأس السم».

القيادة الإيرانية تفهم أيضاً أن أوروبا جاهزة مع الولايات النتحدة للاصرار على تفكيك ميليشيات «حزب الله» والميليشيات الفلسطينية في لبنان والتي تدعمها إيران أيضاً وتمولها بالمال والسلاح. ففي الماضي، تردد جزء من الأوروبيين في تصنيف «حزب الله» كمنظمة «إرهابية»، في موقف مختلف عن الموقف الأميركي. إنما لا أوروبا ولا روسيا ولا الصين، في وارد اعفاء «حزب الله» أو الميليشيات الفلسطينية من تطبيق القرار 1559 القاضي بتفكيك جميع الميليشيات في لبنان وتجريدها من السلاح.

لا أحد في موسكو أو بكين أو في العواصم العربية والإسلامية يتوجه الى مجلس الأمن للاحتجاج على نزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، ولا حتى طهران نفسها. فهذا قرار دولي وليس قراراً أميركياً. إنه يتمتع الآن بالاجماع، عملياً، وذلك بعدما كان لاقى الاقتناع. يتمتع بالاجماع لأن هناك اجماعاً في مجلس الأمن على دعم حكومة رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة، الذي أقام حواراً داخلياً بشأن مسألة اسلحة الميليشيات بموافقة دولية ولفترة زمنية معقولة، إنما ليس لأمد مفتوح الزمن وليس للتهرب من تنفيذ القرار.

في التقرير الأخير للأمين العام كوفي أنان حول تنفيذ القرار 1559، قال أنان في اشارة الى «حزب الله» وانخراطه كحزب سياسي في لبنان: «إن جماعة تشارك في العملية السياسية الديموقراطية لتشكيل الرأي وصنع القرار لا يمكنها أن تمتلك في الوقت ذاته قدرة تنفيذية مسلحة مستقلة خارج نطاق سلطة الدولة».

وأضاف التقرير الذي أعده المبعوث الخاص لمراقبة تنفيذ القرار 1559 تيري رود لارسن «بشكل أعمّ، ان وجود جماعات مسلحة تتحدى سيطرة الحكومة الشرعية، التي يخول لها بحكم مركزها الاستفراد باستخدام القوة في كل ارجاء البلاد، يتناقض مع استعادة سيادة البلد وسلامته ووحدته واستقلاله السياسي واحترامها على نحو تام».

«حزب الله» لا يتحدى فقط مبدأ نزع سلاحه بصفته الميليشيا اللبنانية الوحيدة مصراً على الاحتفاظ بمكانته الحزبية السياسية وبسلاحه معاً على رغم أنه يُناقض احترام سيادة الدولة اللبنانية ويقوّض احترامها. انه يفاوض ايضاً على «حقوق» الفصائل الفلسطينية وميليشياتها في الاحتفاظ بأسلحتها باعتبارها «مقاومة» متحدياً صراحة سلطة الدولة اللبنانية وهيبة الحكومة والجيش اللبناني.

فليقرر «حزب الله» من هو ولمن يعمل لأن في الوضوح خدمة له وللبنان. نعرف انه يعارض اتهام سورية بالتورط في اغتيال الحريري، انما ليس واضحاً لماذا يطالب بالتفاوض على مطلب الحكومة اللبنانية المعني بالسلاح الفلسطيني في لبنان، داخل المخيمات أو خارجها.

واقع الأمر ان ليس في استطاعة «حزب الله» ان يتصرف كدولة داخل دولة أو كميليشيا داخل جيش. أمامه الاختيار كفرصة أخيرة: إما أنه حزب سياسي فائق الاهمية في لبنان، أو انه ناطق باسم المصالح السورية والميليشيات الفلسطينية والزعامة الايرانية يحمل السلاح من أجلها على حساب أهله في لبنان. في الخيار الأول حكمة، وفي الثاني دمار لـ «حزب الله».

الحكمة، عموماً، بضاعة ايرانية رغم انها نادرة في الايام الاخيرة. لكن القيادة الايرانية، تقليدياً، تعرف طريق العودة الى الصواب. ولذلك فليس مستبعداً ان تكون عناصر الصفقة في صدد الإعداد. مثل هذه الصفقة تتطلب التضحية بسورية وكذلك بـ «حزب الله» إذا برزت في الأفق بوادر الاستعداد للاقرار البطيء اللاحق بحتمية وواقعية تحول ايران الى دولة نووية، على نسق السكوت على امتلاك الهند وباكستان واسرائيل وكوريا الشمالية السلاح النووي.

فالتصعيد القائم قد يكون جزءاً من التهدئة الآتية شرط التفاهم على متطلبات اليوم وغايات الغد. ولأن ايران تمتلك أدوات الانتقام من العقاب وتفهم بدقة متطلبات فن التمركز الاستراتيجي، فإن الغرب يفهم حدوده معها. هذا شرط ألا تصل الحذاقة الايرانية الى درجة التهور. إذا تهورت ايران فإنها ستتقلص الى دولة معزولة، صبغتها رعاية الارهاب والجرائم والاغتيالات والتخريب، وبذلك لن تخسر فقط طموحات الزعامة وانما ايضاً ما جنته نتيجة أخطاء إدارة جورج دبليو بوش (أو حساباتها) بدءاً من تصور «الهلال الشيعي» الذي وضعه المحافظون الجدد في غمرة حماسهم.

الدول الخليجية العربية قد يخطر لها ان ايران الطامحة بالنووي والعظمة والزعامة قادرة على تنفيذ الطموحات لأنها تمتلك أوراق النفط والعراق وفتح جبهة لبنان عبر «حزب الله».

ليس تماماً. بعض هذه الأوراق محروقة أصلاً اعتماداً على ما تقرره طهران. فإذا قررت ان تكون دولة نووية مقبولة في نهاية المطاف، فإن طهران مضطرة للتضحية الآن بقطبي الحلف الثلاثي، أما إذا قررت المغالاة بأهميتها الانتقالية والمغامرة بطموحاتها النووية وبتحولها الى دولة منبوذة، فإنها ستستدعي حرب الزعامة على حساب المنطقة العربية.

في أي من الحالين، لم تعد سورية مالكة الورقة الايرانية في الخليج، ومن فكر بتلك المعادلة أخير، ليس إلا رابضاً في الأمس غائباً عن معطيات اليوم. فدمشق اليوم عالة على طهران وعلى أي عاصمة اقليمية تلجأ اليها للمساعدة مع طهران أو ضدها.

دمشق متهمة بتجنب التعاون مع التحقيق الدولي الذي اقره مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من الميثاق. ومجلس الأمن خول لجنة التحقيق مهام لا سابق لها لإتمام التحقيق متوعداً باجراءات عقابية في حال تعطيل التحقيق ورفض التعاون معه.

الرئيس الجديد للجنة الدولية المستقلة، البلجيكي سيرج برامرتز سيتسلم قيادة التحقيق قريباًمن الالماني ديتليف ميليس الذي توصل الى الاستنتاج بأن للنظام السوري ذراعاً ودوراً في الاغتيالات بناء على ما جمعه من أدلة واستنتاجات.

برامرتز أعد نفسه وهو متشوق لأن يترك بصماته على التحقيق بعد الاطلاع على ما توصل اليه الفريق الضخم التابع للجنة الدولية المستقلة. انه جاهز الآن وهو سيحيي اعمال اللجنة بعدما تهيأ للبعض انها انحسرت أو خضعت لقرارات القيادة السورية برفض الشهادة أو تقديم بعض المشتبه بهم الى التحقيق.

الخطوة التي اتخذتها السلطات الاميركية بتجميد أموال صهر الرئيس السوري ورئيس الاستخبارات العسكرية السورية، آصف شوكت، لم تأت من فراغ، فهو مصنف «مشتبهاً به» حسب رسائل اللجنة الدولية المستقلة الى السلطات السورية وغيرها.

اللجنة الدولية المستقلة ستطلب قريباً من السلطات السورية توقيف عدد من المسؤولين الامنيين الكبار بصفتهم «مشتبهاً بهم» في اغتيال رفيق الحريري. وهذا سيفتح جبهة جديدة في العلاقة السورية مع التحقيق الدولي.

لا وساطة عربية في هذا، فردية أو ثنائية أو عبر الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى. فهذا قرار دولي وتحقيق دولي ولا دور لاي طرف فيه. انه تحقيق في جرائم وليس مؤامرة على العروبة واستقرارها.

فإذا كان للأطراف العربية، أفراداً أو جماعات، ان تلعب دوراً من أجل سورية، عليها ان تتنبه لكلمة «وساطة» أو «توسط»، عليها ان تقاوم دعوات بعض قيادات المحور الثلاثي الى الوساطة والتوسط. فهذا دور في منتهى الخطورة لأنه إما يقدم غطاء الحماية من الاستحقاقات، او يفتح الباب على المساومات، أو يقطع الطريق على الإقرار الضروري بأنه حان زمن الحسم والمحاسبة.