لم يعد من الممكن بأي حال من الأحوال فصل مستقبل سورية عما يحدث في لبنان. منذ اندلعت المقاومة العراقية، ولعامين طوال، جري استهداف سورية من النافذة العراقية. وعندما لم يحقق ذلك الاستهداف أهدافه، تحول إلي البوابة اللبنانية. من زاوية النظر الأمريكية، العراق لا يزال هو المحدد لزاوية النظر الأمريكية. بالنسبة لفرنسا، قد يختلف المحدد وتختلف زاوية النظر. ولكن الطريق إلي دمشق، لكليهما، بات يبدأ من لبنان. هذا الطريق محفوف بعدد من الأسئلة:

رئيس الوزراء اللبناني السابق د. سليم الحص هو واحد من أكثر الشخصيات العربية واللبنانية احتراماً. الرجل الذي جاء من الحقل الأكاديمي إلي العمل السياسي التنفيذي والبرلماني، كان دائماً فوق الانقسامات الفئوية، ولم يحتم لا بالمحاصصات الطائفية ولا بسلاح الميليشيات. إن كان هناك من سياسي لبناني أعطي للسياسة وجهها المدني الرفيع، فقد كان سليم الحص. ومنذ ترك د. الحص العمل التنفيذي والبرلماني، تحول إلي ضمير للبنان وصوت بارز علي الساحة العربية القومية. ولكن آراء الحص في الأزمة اللبنانية ـ السورية لا تروق لما يسمي اليوم بالأكثرية البرلمانية في لبنان. ولأن السياسة في لبنان تعود اليوم إلي أكثر مواقعها الطائفية بدائية، فكان لابد ان تكون الأصوات المعتدية علي الحص أصواتاً سنية. وقد تعرض الرجل مؤخراً لهجوم بشع، لا يمكن ان يوصف إلا بالاغتيال السياسي بالكلمات.

لم يعد الانحدار باللغة السياسية إلي المستوي الذي هوجم به د. الحص مستغرباً في الأجواء اللبنانية السائدة. إذ تكاد أمواج التلفزات وصفحات الصحف العربية واللبنانية تغرق بعواصف لا أول لها ولا آخر من الاتهامات والاتهامات المضادة، الصادرة عن خصوم سورية والمتحالفين أو المتعاطفين معها. المستغرب ان الرئيس الحص ليس طرفاً في هذا الصراع؛ فلا هو خصم لسورية ولا هو حليف لها، لا هو داعية لإطاحة النظام السوري ولا كان يوماً (ككثير من الساسة اللبنانيين) أداة لما بات يعرف بالنظام الأمني السوري ـ اللبناني. الهجوم السافر علي سليم الحص لا يمكن ان يفهم إلا في إطار واحد: ان التيار الذي يمثل الطائفة السنية في البرلمان اللبناني اليوم يسعي إلي إخماد كل صوت سني سياسي مخالف، بغض النظر عما إن كان هذا الصوت محسوباً علي دمشق أم لا. الذين وصلوا إلي البرلمان علي موجة تعاطف شعبي بالغ مع ذكري الرئيس الشهيد الحريري، وبقوة المال، وامتناع أكثرية ناخبي بيروت عن التصويت، يعملون اليوم علي إلغاء التعددية السنية، إحدي أبرز سمات التعددية اللبنانية السياسية. فهل سيتعايش سنة لبنان مع سياسة الإلغاء هذه؟ وهل سينتهون إلي القبول بأن يمثلهم صوت واحد لا غير، يقمع كل صوت آخر ممكن؟

وقد شهد لبنان خلال الأسابيع القليلة الماضية صعوداً غير مسبوق للزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ليس فقط علي صعيد التصريحات الجنونية، بل أيضاً علي صعيد القرار السياسي. علي مستوي التصريحات، دعا جنبلاط إلي إطاحة النظام السوري، بل وحاول اللعب بالورقة الطائفية في سورية عندما قال ان الأكثرية تحكم في كل مكان فلماذا لا تحكم في سورية. ما يقصده بذلك، وهو الزعيم الطائفي بامتياز، هو تحريض الأكثرية السورية السنية علي نظام يسيطر عليه العلويون. ندد جنبلاط بحلفائه السابقين في حزب الله، الذين ساعدوه مساعدة فعالة في الفوز بعدد مضخم من المقاعد البرلمانية، واصفاً سلاح المقاومة بأنه سلاح الغدر. كما اتهم الجبهة الشعبية، القيادة العامة، بأنها مجموعة عصابات.

أما علي مستوي السياسات، فقد بات جنبلاط يتصرف وكأنه الرئيس الفعلي للوزراء، وأن لا سعد الدين الحريري ولا فؤاد السنيورة، يستطيعان إمضاء أمر بدون رضاه، وإن فعلا فسرعان ما سينزلان عند رأيه. فبعد ان توصل الحريري ووفد من حزب الله في جده إلي صيغة اتفاق تضع نهاية للأزمة الوزارية اللبنانية، تدخل جنبلاط لإلغاء الاتفاق والعمل علي استمرار الاحتقان الداخلي. وعندما تحرك الأمين العام للجامعة العربية، السيد عمرو موسي، لتهدئة العلاقات اللبنانية ـ السورية، وفصلها عن سياق التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الحريري (ولو نسبياً، علي أية حال)، تعرض موسي لحملة بشعة من جنبلاط وحلفائة، أدت إلي تخلي الأمين العام عن مساعيه. ولم يتردد جنبلاط عن اتخاذ موقف مماثل من المبادرة المصرية ـ السعودية، التي سعت هي الأخري إلي وضع حد للتوتر المتصاعد في العلاقات اللبنانية ـ السورية. وبالنظر إلي الموقع المركزي لمصر والسعودية في المنظومة العربية، فلابد ان يفهم التحرك ضد المبادرة المصرية ـ السعودية بأنه سياسة مبيتة لمنع الدور العربي وترك الساحة اللبنانية للقوي الدولية.

التصعيد الحاد الذي يقوده الزعيم الدرزي يسير في اتجاه واحد: الصدام السني ـ الشيعي في لبنان. بدون الحاملة السنية، يفقد جنبلاط معظم وزنه وتأثيره وأهميته، حتي ولو وقفت وراءه الأساطيل الأمريكية والفرنسية. لبنان الحالي ليس متصرفية جبل لبنان في القرن التاسع عشر، عندما كان باستطاعة زعيم درزي ما تفجير حرب أهلية وخلق أزمة دولية. لبنان الحالي أكبر بما لا يقاس، وأكثر تعدداً؛ والدروز فيه هم قوة من الدرجة الثانية، تقف خلف الطوائف الثلاث الكبار. ناهيك عن ان السيد جنبلاط لا يمثل كل الدروز. ولذا، فإن التصعيد الذي يقوده جنبلاط ضد سورية وحزب الله هو تصعيد يفترض حمل سلاح سنة لبنان (ويأمل في حمل سلاح سنة سورية). فهل يقبل سنة لبنان بأن يتحدث السيد جنبلاط باسمهم، هل سيقبلون بأن يجرهم جنبلاط إلي معركة طائفية جديدة لا تبقي ولا تذر؟ ولمصلحة من؟

منذ بداية الأزمة، وبالرغم من التحالف الأمريكي ـ الفرنسي في المواجهة مع سورية، فإن دوافع الدولتين وأهدافهما تباينت، إلي هذا الحد أو ذاك. الدافع الرئيسي للهجوم الأمريكي علي سورية كان تأزم الوضع الأمريكي في العراق، وإحجام دمشق عن مد يد العون للجهد الأمريكي ضد المقاومة العراقية. لو تعاون نظام الأسد في العراق، لما كان أجبر علي الخروج من لبنان، ولا كان أحد قد سمع بحرية لبنان أو استقلاله. أما الموقف الفرنسي، فيتعلق بامتيازات نفطية في سورية (ذهبت في حسابات غير دقيقة للأمريكيين)، واستهتار سوري غير مسبوق بالنفوذ الفرنسي في لبنان. وقد التقت أهداف الضغط علي سورية في لحظة تراجع واشنطن وباريس عن سياسة الصدام التي ميزت مواقفهما من غزو العراق، ورغبة متزايدة لبناء حالة من التفاهم الفرنسي ـ الأمريكي. ثم جاء اغتيال الرئيس الحريري، ليوفر فرصة سانحة لدفع تفاهم الدولتين قدماً إلي الأمام. ولكن سياسة الضغط علي سورية، ومطالبتها بدفع ثمن أخطائها، أو ثمن تحقيق أهداف أخري في المحيط الأقليمي، لم تعن إطاحة النظام السوري، بل تغيير سلوكه وسياساته، سواء في العراق أو لبنان (وما يتعلق به من المسألة الإيرانية) أوفلسطين. ولكن ثمة مؤشرات متزايدة علي أن تغييراً ما قد طرأ علي هذه السياسة باتجاه إطاحة النظام الحاكم في دمشق وليس تغيير سلوكه وسياساته فحسب.

تأتي مرجحات التغيير في السياسة الأمريكية ـ الفرنسية تجاه سورية من عدد من التطورات. فقد أبدت سورية منذ بدأت أزمة وجودها ودورها في لبنان تصلباً لا يخفي تجاه الضغوط الأمريكية ـ السورية. في فلسطين، توشك حماس تحقيق نصر انتخابي كبير، بغض النظر عما إن كانت ستفوز علي فتح أو تحصد حصة مؤثرة في المجلس التشريعي. في العراق، تتزايد معدلات الخسائر الأمريكية العسكرية والسياسية علي السواء. القوي التي تكاد تسيطر علي الحكم الجديد هي قوي لا تطمئن واشنطن لولائها، وكما كل شيء في العراق الآن، بات موقفها من الأمريكيين محكوماً بمجرد فتوي قصيرة من رجل دين لم يقابله مسؤول أمريكي قط. أما في الساحة الأمنية، فلم يعد في وسع الأمريكيين من وسيلة لمواجهة المقاومة إلا واستخدموها، بدون أي نجاح يذكر لا في هزيمة المقاومة ولا في تخفيف معدلات الخسائر الأمريكية. في إيران، وصلت الضغوط الغربية فيما يتعلق بالتقنية النووية الإيرانية طريقاً مسدوداً. فالإيرانيون مصممون علي استئناف نشاطاتهم البحثية النووية، التي ستوفر لهم بلا شك خبرة متراكمة لصنع سلاح نووي في المستقبل. وسيكون علي الأمريكيين والأوروبيين فرض عقوبات أممية علي إيران، أو حتي توجيه ضربة جوية واسعة لمنشآتها النووية في كافة أنحاء البلاد. أي من هاتين الخطوتين سيؤدي إلي مزيد من التدهور الأمني في العراق، وسينعكس مباشرة علي حجم الخسائر الأمريكية والبريطانية، ومصير الوجود الأمريكي ـ البريطاني في العراق.

في مثل هذا المناخ، تصبح سياسة الهرب إلي الأمام خياراً ملحاً علي صانعي القرار في واشنطن وباريس. وقد باتت سورية، علي الأقل منذ اغتيال الرئيس الحريري وتشكيل لجنة التحقيق الدولية، إحدي أضعف حلقات الأقليم. وهناك درجة عالية من الالتقاء بين باريس وواشنطن في كل من الساحات الثلاث: فبالرغم من معارضتها غزو العراق، ففرنسا لا تريد هزيمة أمريكية علي يد المقاومة؛ وتلتقي باريس وواشنطن علي رؤية الصعود الإسلامي السياسي في المنطقة العربية باعتباره خطراً علي المصالح الغربية؛ كما ان هناك اتفاقاً كبيراً علي جانبي الأطلسي حول معارضة امتلاك إيران التقنية النووية. فهل أصبحت سورية تواجه قراراً أمريكياً ـ فرنسياً بالعمل علي إسقاط النظام الحاكم في دمشق؟ إن كان هذا هو ما انتهت إليه السياسة الأمريكية ـ الفرنسية، فكيف يمكن إسقاط النظام السوري، بأي وسيلة، وما هو البديل؟

ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، تجاهل الموقف العربي، لاسيما الموقف الذي تتخذه، وما يحتمل أن تتخذه، مصر والسعودية. فمنذ منتصف التسعينات، ومصر وسورية والسعودية، تلعب دور مركز الثقل العربي، بالرغم من ان العلاقات الثنائية والثلاثية بينهم لم تخل من خلاف في المصالح ووجهات النظر. اليوم، يطال التهديد إحدي دول المحور الثلاثي، وهي الدولة التي خالفت الاثنتين الأخريين في الموقف من غزو العراق. بدون موافقة مصرية ـ سعودية علي إطاحة النظام السوري، لن تتمكن الولايات المتحدة وفرنسا من تحقيق هذا الهدف، إن كانتا قد عزمتا فعلاً علي تحقيقه. ولم يعد سراً أن القاهرة والرياض وافقتا، أو علي الأقل لم تخالفا، واشنطن في مشروع إطاحة النظام العراقي. وأن غزو العراق ما كان ممكناً بدون موقف عربي مؤيد.

بيد ان مصر والسعودية تدركان الآن، وكما أغلب المجتمع الدولي، العواقب الوخيمة للمشروع الأمريكي في العراق، بعد ان أطيح بالدولة العراقية وليس النظام فحسب، انهارت لحمة البلاد الوطنية ووحدتها، وأدي الاحتلال إلي مزيد من الراديكالية في الرأي العام العراقي والعربي. وتدرك القاهرة والرياض انه إن كان عقد العراق المحتل قد انفرط إلي ثلاث كتل رئيسية، فإن سورية ولبنان تجلسان علي سطح متفجر من الطوائف والإثنيات، وأنهما ليستا أقرب من المركز العربي فحسب، بل وتحدان الدولة العبرية بحدود قلقة وقابلة للاشتعال في ساعات. خلال الأسابيع القليلة الماضية أبدت مصر والسعودية قلقاً لا يخفي تجاه الأزمة اللبنانية ـ السورية، وحاولتا بلورة اتفاق تهدئة يفتح الطريق إلي حل تدريجي لكافة القضايا العالقة ويضع حداً للتهديد المتصاعد للوضع السوري. ولكن زيارة ديفيد وولش للبنان في مطلع الأسبوع، وزيارة تشيني للقاهرة والرياض أمس الأول، تنبئان بضغوط أمريكية متوقعة علي الدولتين العربيتين الرئيسيتين. فهل يتحول الموقف المصري ـ السعودي من محاولة حماية الاستقرار السوري ـ اللبناني إلي الموافقة علي تغيير النظام السوري؟

الإجابة عن هذه الأسئلة، وأخري أقل أهمية، ستحدد المسار الذي تتجه إليه سورية، ولبنان بالتبعية، مهما كانت التطمينات التي تقدم للبنانيين.

كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث