مَن القائل: <<لقد انحصر عمل الفلاسفة في تغيير العالم... والمسألة الآن هي تغييره>>؟
إنه كارل ماركس (أطروحات حول فيورباخ 1845).

مَن القائل: <<لقد انحصر عمل الدبلوماسية في وصف العالم كما هو، وبات عليها الآن أن تسعى إلى تغييره>>؟
إنها كوندليسا رايس (خطاب جورجتاون في 18 كانون الثاني 2006).
رايس ماركسية؟ كلا بالطبع. ولكنها رايس التي تحاول أن تتجاهل تاريخ التدخل الأميركي، بالوسائل كلها، من أجل تغيير العالم. وهي رايس التي تريد تقديم الفلسفة الجديدة للدبلوماسية الأميركية: <<الدبلوماسية التغييرية>>.

ثمة ما يسمح بالاعتقاد أن الانعطافة الأميركية غير مفهومة كفاية في بلادنا، أو انها مجرد تشدد يمكن إرغامه، ببساطة، على إجراء صفقات وتسويات، أو يمكن الالتفاف حوله بمناورات، أو مواجهته بما تيسر من إعداد للشعوب والمجتمعات. خطاب رايس في جامعة جورجتاون يأتي ليؤكد أن الوجهة الجديدة هي ثمرة تفاعلات اختمرت في المرحلة الأخيرة قبل أن تنتج منظومة فكرية تستعيد عناصر من العقائد السابقة ولكنها تصبها في قالب جديد تماماً.

عندما تتكلم رايس تقول إن النظام الذي انتهى في العالم ليس ذلك الذي انبنى في القرن التاسع عشر، أو ذلك الذي عرفناه في فترة <<الحرب الباردة>>. كلا إن النظام المنتهي هو ذلك الذي عرفته البشرية منذ 350 عاماً والقائم على مبدأ سيادة الدول وسيطرتها على أو توجيهها للتهديدات الصادرة عن أرضها. لم تعد الدول المتعثرة عبئاً على شعبها أو على الإنسانية أصبحت مصدر الخطر الأمني الأول. بكلام آخر، تقول وزيرة الخارجية الأميركية، أصبحت التهديدات صادرة من داخل الدول ولم تعد ناجمة عن توتر علاقات الدول ببعضها.

المنطقي، والحالة هذه، تحويل المؤسسة الدبلوماسية الأميركية لخدمة أهداف طارئة ومستدامة. لقد بات مطلوباً الإقدام على <<إعادة انتشار دبلوماسي>> من أجل الاهتمام بالقوى البازغة، وبمصادر الخطر المستجدة. كما بات مطلوباً العمل في الخطوط الأمامية للاصلاح المحلي في كل بلد كما في الغرف الخلفية للوزارات الأجنبية>>. وتأسيساً على ذلك تقدم الوزيرة تصوراً جديداً لمهمات وزارتها.
ما يمكن استنتاجه من أطروحة رايس حول <<الدبلوماسية التغييرية>> هو التالي:

أولاً إنها دبلوماسية تأخذ في الاعتبار تعريف الرئيس جورج بوش لسياسة الولايات المتحدة بأنها <<السعي إلى دعم نمو الحركات والمؤسسات الديموقراطية في كل بلد وثقافة وذلك تحقيقاً للهدف السامي الذي هو إنهاء الطغيان في العالم>>.

ثانياً لم يعد الهدف المركزي للدبلوماسية الاكتفاء بتعديل موازين القوى بين الدول. لقد بات الهدف المركزي هو التدخل في حياة هذه الدول، والقفز من فوق سيادتها، لتغييرها من الداخل.
ثالثاً لم تعد مهمة الدبلوماسيين الأميركيين تقديم التقارير أو رعاية مصالح بلدهم في البلد الذي يخدمون فيه. ان من مهماتهم التدخل في حياة الدول المضيفة وتدريب مواطنيها على أمور من نوع <<حكم القانون>>، أو <<مباشرة إنشاء الأعمال>>، أو <<اصلاح التعليم>>.

رابعاً فضلاً عن المهمات الوديعة المشار إليها فإن للتدخل وظائف أخرى هي المساعدة في تحويل البلدان النامية إلى ديموقراطيات ومحاربة الإرهاب... وثمة حالات معينة كما في العراق، أو فلسطين، أو لبنان، تندمج فيها محاربة الإرهاب بالتشجيع على التحول الديموقراطي لا بل تُوضع شروط على هذا التحول إذا كان يمكنه ان يعزز مواقع أطراف متهمة بممارسة الإرهاب.

خامساً إعادة الانتشار الدبلوماسي تشبه إعادة الانتشار العسكري التي أقدمت الولايات المتحدة عليها بعد الحرب الباردة وتعتزم تنفيذ خطوات جديدة في سياقها: تقليص الوجود في أوروبا واليابان، مثلاً، لصالح تعزيزه في بلدان آسيوية أخرى وفي الشرق الأوسط تحديداً.

لقد أكدت رايس في خطابها ان العملية ستشمل آلاف الدبلوماسيين. إلا انها أشارت إلى <<دفعة أولى>> سريعة من مئة دبلوماسي يفترض إعادة تشكيلهم من أوروبا والولايات المتحدة إلى بلدان مثل الصين والهند ونيجيريا و... لبنان! ولقد كان لافتاً إيراد اسم لبنان بملايينه القليلة من السكان إلى جانب عملاقين بشريين مثل الصين والهند أو عملاق أفريقي مثل نيجيريا. ومن المسموح القول، ربما، إن واشنطن لا تراهن على تأثيرات جدية يحدثها وصول بضعة دبلوماسيين إضافيين إلى الصين مثلاً، في حين انه من حقها الرهان على مثل هذه التأثيرات في بلد مثل لبنان يمر في الحالة الزئبقية التي نعرفها.

إن الشعار المعلن للدبلوماسية الأميركية هو التدخل من أجل التغيير ومن أجل تغليب وجهة على وجهة في البلدان المعنية. هذه ليست تهمة. ان هذا هو، حرفياً، ما تقوله قائدة <<الدبلوماسية التغييرية>>. لذا لا يعود مفهوماً الاستنفار الذي يعلنه بعض دبلوماسييها، في لبنان مثلاً، حين يقال ان تدخلاً يحصل من جانبهم في الحياة الداخلية للبلد. إن التدخل هو واجبهم وإلا فإن عليهم حساباً يؤدونه إلى وزيرتهم التي يمكنها اتهامهم بالتقصير في حال لم يمارسوا ما يسمونه <<نصائح>> وما يسميه غيرهم <<رعاية>> أو <<وصاية>>.

يبقى أن أحداً لن يناقش، في هذا المجال، وجهة التدخل والتغيير ومدى صلته بالشعارات المرفوعة، ومدى <<النجاحات>> المتحققة في حالات سابقة. إن أحداً لن يناقش ذلك الآن. حسبنا الاكتفاء بما أعلنته رايس حتى من دون التعبير عن الرغبة في اعتباره تأنيباً لسفير أميركي نفى عن نفسه تهمة <<التدخل>> متجاهلآً أن ذلك قد يسبب له متاعب ليس في بيروت وإنما في... واشنطن!