رصيناً كان الامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله وواعيا وحكيما وهادئا في آخر اطلالاته التلفزيونية قبل ايام. وكان شبح المصلحة الوطنية ظاهراً في معظم الكلام الذي قاله والمواقف التي اتخذ رغم عدم موافقة لبنانيين كثيرين على بعضها، وخوف كثيرين آخرين ان يكون باطنها غير ظاهرها، ورغم اعتقاد كثيرين ان اللهجة التصالحية او ربما الحوارية التي استعمل على مدى اكثر من ساعتين كان الهدف منها امرار المرحلة الصعبة التي يمر بها حزبه ومن يمثّل وحلفاؤه الاقليميون اكثر منه التأسيس لحوار جدي يجنّب لبنان الوقوع مرة جديدة ضحية الصراعات الاقليمية والدولية وساحة "مميزة" لها. وليس ذلك تزلفا له او لحزبه او حلفائه، اذ دأبنا في هذه الزاوية على انتقادهم حيث وجب، في رأينا طبعا، وعلى احترامهم حيث يجب. وفي كل الحالات لم نشكك يوما في مقاومتهم التي اجبرت الاحتلال الاسرائيلي على الخروج من لبنان، رغم تساؤلنا اكثر من مرة ومع جهات لبنانية متنوعة عن الاسباب والظروف والعوامل المحلية والاقليمية التي حصرت حق الدفاع عن الوطن، بل حق الاستشهاد من اجل تحريره من اسرائيل بالحزب دون الآخرين، علما ان حركات لبنانية اخرى هي التي اطلقت المقاومة ومارستها سنوات عدة بجدارة، بل هو اقرار بواقع وحرص على القاء الضوء على كل ما من شأنه ان يجمع الداخل اللبناني لمعالجة الحاضر والتأسيس للمستقبل بعد الاعتبار من الماضي. ولعل اهم ما عكس في اطلالته التلفزيونية المذكورة الصفات المشار اليها اعلاه تأكيده الاستعداد لمعاودة الحوار مع الزعيم الدرزي الابرز وليد جنبلاط رغم التوتر الذي شاب علاقتهما في الاسابيع الماضية ومع اي جهة اخرى، وتأكيده انه لن يستعمل سلاحه في الداخل، وانه يرفض الحرب، اي حرب، مع اللبنانيين. وتأكيده ان كل شيء قابل للحوار بما في ذلك سلاح المقاومة.

هل اقنع السيد نصرالله بكلامه الاخير الذي ردده اكثر من مرة في السابق اللبنانيين ، وخصوصا الذين يتوجسون منه ومن حلفائه في الداخل والخارج او يخافون؟

الجهات السياسية المعنية المختلفة معه على كثير من الامور اعتبرت ان الامين العام لـ"حزب الله" قرر، لاسباب متنوعة، تنفيس الاحتقان الكبير تلافيا لانفجاره، وقررت تبعا لذلك ملاقاته لتحقيق الهدف نفسه. وظهر ذلك جليا في تصريحات سياسية ومواقف نشرتها وسائل الاعلام في اليومين الاخيرين، علما ان الخطوات العملية لذلك لم تبدأ بعد وخصوصا بعد "الشرط" اذا جاز وصفه كذلك الذي وضعه للبدء في "التنفيس" العملي وهو الحصول من مجلس الوزراء على "جملة واحدة" تصف حزبه بالمقاومة لا بالميليشيا، مضافا الى ذلك توافق الحلفاء على القضايا الرئيسية قبل جلسات مجلس الوزراء . ولا احد يعرف اذا كان التنفيس الذي هو مرحلة مبدئية سيتحقق أم لا. لكن ما يعرفه متابعو الوضع اللبناني، بكل تعقيداته الداخلية وتشعباته الخارجية، ان ذلك سيكون رهنا بتجاوز الخوف المتبادل وازالة ازمة الثقة او بالاحرى ازمة انعدام الثقة بين "حزب الله" وحلفائه المحليين وبين من يواجههم من الجهات اللبنانية الاخرى على تنوع انتماءاتها. فالحزب يعرف ان اميركا تصنفه منظمة ارهابية وتضغط على حلفائها كي يتبنوا التصنيف نفسه. ويعرف ان مجلس الامن بقراره 1559 يفتح الطريق باعتباره ميليشيا امام انهائه حزبا سياسيا مع الوقت، ويعرف ان مقاومة المجتمع الدولي وقراراته لن تنجح في النهاية وانه لا بد ان يدفع الثمن سواء عبر صفقة بين هذا المجتمع ورعاته الاقليميين او عبر استهدافه واياهم في مرحلة من المراحل، ويعرف ان الاصرار على ضرب حزبه او بالاحرى على اضعافه قد ينطوي على خلفيات تتعلق باعادة رسم احجام مكونات الشعب اللبناني في التركيبة السياسية الرسمية. والجهات المتواجهة معه تعرف في الوقت نفسه انه الوحيد الذي يقلقها بل يخيفها كونه صاحب ترسانة اسلحة ضخمة ومتنوعة وصاحب خبرة قتالية واسعة وكونها هي بلا سلاح او على نحو اكثر دقة بلا سلاح قادر على مواجهة هذه الترسانة. وتعرف ايضا ان امتداداته الاقليمية مقلقة لها وللبنان كوطن في ظل استمرار بعض هذه الامتدادات في الاصرار على عدم الاعتراف بالواقع الاستقلالي المستجد في لبنان والسعي الى تقويضه في شكل او في آخر. وما يعزز هذا النوع من المخاوف والقلق امران. الاول، تولي "حزب الله" وبنجاح استنهاض حلفائه وحلفاء سوريا بعد اشهر من الانكفاء الذي فرضته التطورات منذ 14 آذار الماضي مستفيدا لتحقيق ذلك من فشل "جماعة 14 آذار" في المحافظة على وحدتهم و"استشراس" الحليف الاقليمي او الحلفاء في اصراره على اعادة التوازن الى الساحة اللبنانية بينه وبين اخصامه وتاليا الى استعمال هذه الساحة في المواجهة الدولية الشرسة التي يخوض. وظهر ذلك في وضوح اثناء التظاهرتين المعاديتين لاميركا اللتين رفعتا شعارات سورية وايرانية. اما الامر الثاني، فهو بروز "لغة فوقية" اذا جاز التعبير عند البعض في القيادات في "حزب الله"، الوسيطة ربما، اثناء التخاطب مع الشركاء الاخرين في البلاد إما انطلاقا من اقتناع ايديولوجي او من اقتناع بان ميزان القوى الذي "طبش" في غير مصلحته قد استقام.

هل تتبدد ازمة انعدام الثقة ومعها المخاوف المتبادلة بين "حزب الله" والاطراف اللبنانيين الذين يواجههم او يواجهونه؟

تبديدها يكون باقدام من يواجهون الحزب المذكور ومعظمهم من "14 اذار" على اقناع المجتمع الدولي الذي يدعم لبنان ويدعمهم بالافساح في المجال امام حوار جدي معه يحقق الغايات التي يطلبها المجتمع الدولي وفي مقدمها سيادة الدولة على اراضيها في لبنان بواسطة قواها الذاتية. وقد قام هؤلاء بهذه المهمة بل نجحوا فيها. وليس مطلوبا منهم على الاقل في هذه المرحلة التخلي عن الدعم الدولي او التفريط به لانه اساسي في معركة استعادة بلادهم وضعها بين الدول المستقلة والحرة والسيدة. ويكون تبديدها ايضا باحترام "حزب الله" من دون التخلي السياسي عن حلفائه الاقليميين والتنكر لمساعداتهم الكبيرة له كتنظيم وللبنان كمقاومة لتحرير الارض من الاحتلال الاسرائيلي على نوع من الفصل بين سياسته اللبنانية وسياسة المحور الاقليمي الذي يعتبره جزءا منه بل ذراعا مهمة له سياسية وعسكرية في لبنان. الا ان السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: هل يستطيع "حزب الله" القيام بهذا الامر؟ والجواب عن ذلك صعب جدا. فالحلقات الحزبية عنده حافلة منذ مدة بالمناقشات حول هذا الامر وحول امور اخرى متصلة به. لكن لا قرار حتى الآن علما ان القرار ليس سهلا. ويبدو من خلال ذلك ان الحزب يعيش نوعا من المأزق او انه مثل "بالع الموسى" كما يقال. ذلك ان اخراجه الموسى مؤلم وجارح وكذلك اكمال ابتلاعها. ولعل ابرز تجليات المأزق هو الاعتماد الكبير للحلفاء الاقليميين على الحزب في صراعهم مع المجتمع الدولي واستطرادا المجتمع الاقليمي ولا نقول العربي لان "الذبذبة" كانت دائماً احد سمات مواقفه والتحركات. في اي حال ليس امام اللبنانيين الا الحوار وتفهم بعضهم مخاوف بعضهم الآخر وهواجسه و"مآزقه" وتبادل المساعدة في ما بينهم للخروج منها. واي شيء دون ذلك يبقى كلاما في الهواء.