يمكن ردّ الخلاف بين وليد جنبلاط و»حزب الله» الى أسباب لا تُحصى، بعضها مذهبي وبعضها وطني، بعضها لبناني وبعضها إقليمي. مع هذا، ثمة بُعد نادراً ما يُشار اليه هو، في أغلب الظنّ، جزء من خلفيّة النزاع.

والبند هذا قد لا يكون مُوعى تماماً، بيد أن إدراجه في سياق عربي أعرض ربما ساعد في تظهيره.

ذاك أن جنبلاط، في واحد من وجوهه الكثيرة، سليل «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة» التي أسّسها وقادها والده كمال. وعلى رغم تقاطُعها مع القوى والمطالب الإسلاميّة آنذاك، حافظت «الحركة» المذكورة على لغة وشعارات علمانيّة. بل على رغم تحالفها مع سوريّة في عناوين ومفاصل أساسيّة، جاءت هزيمتها المُرّة في 1976 على يد النظام السوري. وهي لئن كانت، في الحسابات الجيوبوليتيكيّة العريضة، حليفاً للسوفيات وخصماً للنفوذ الأميركي – الإسرائيلي، غير أنها، أقلّه في لغتها السياسيّة، لم تقدّم نفسها عدواً للحداثة الغربيّة.

وقصارى القول إن ما أسسه كمال جنبلاط كان، في المنعطفات الأساسيّة، لبناني القرار كما كان، ولو بطريقة خاصة جداً، حداثيّاً وإصلاحيّاً.

لكن ضمور «الحركة الوطنيّة» واغتيال مؤسسها ترافقا مع صعود الشيعيّة السياسيّة التي ولدت مع الإمام موسى الصدر قبل أن يرثها، إبّان الاجتياح الإسرائيلي وخصوصاً بعده، «حزب الله». وفي التعاقُب هذا وقد وازاه تراجع السياسات «الحداثيّة» لصالح سياسات تجمّعيّة وطائفيّة صريحة، طرأت تحوّلات ملحوظة في الطائفة الشيعيّة وحِراكها الحزبي. فهي، بعدما كانت مصدراً تغرف منه أحزاب «الحركة الوطنيّة»، عادت الى «جذورها» فشرعت تتماهى مع أحزابها «الخاصّة»، تماماً كما حصل مع المسيحيين في فترة أسبق.

إلا أن الإختلاف لا يقتصر على تعاقُب زمني. ذاك أن «الحركة الوطنيّة» مثّلت «مناهضة الإمبرياليّة» بمعنى سابق على صعود الهويّات الأكثريّة والمسلّحة. صحيحٌ أن كمال جنبلاط ظل، أولاً وأساساً، زعيم الطائفة الدرزيّة، غير أن الزعامة تلك «وسّعت» طائفتها من خلال التحالف مع أحزاب اليسار، كما من خلال تبنّي المطالب الاجتماعيّة والتحديثيّة التي تبنّاها.

أما «حزب الله» فحالةٌ أهليّة مكتفية بذاتها عددياً، مغلقة على نفسها سياسياً وأيديولوجياً. ثم أن اعتماده الماليّ على إيران يعفيه من الاهتمام بالشؤون الاجتماعيّة والاقتصاديّة اللبنانيّة. وهو جميعاً ما يعزّز وجهه كحزب «أصولي»، أحادي في قضيّته، عابر للحدود في ولائه، منشدّ في قراره الى مراكز تقع خارجه وخارج بلده.

هكذا يعود الخلاف بين تركة «الحركة الوطنيّة» وبين «حزب الله» ليندرج في انشقاق أوسع، عربي وغير عربي، عرفه الصف «المناهض للإمبرياليّة». فهناك من رأى، في لبنان وخارجه، ان الأولويّة للمعركة ضد الأصوليّات الدينيّة، بالعالم الذي تبشّر به والقيم التي تحملها، بالاستبداد الذي ترهص به والانقلاب على العالم المألوف للوطنيّة وللسياسة الذي يتجسّد فيها. أما «الامبرياليّة» فترتدّ معاداتها الى مرتبة غير متصدّرة، من غير استبعاد تحوّلها حليفاً احتياطياً. ذاك أنها، من جهة، تملك الحداثة التي بها يُواجَه التخلّف وتملك، من الجهة الأخرى، القوة التي يمكن أن تُردع بها قوة الاستبداد. وفي المقابل، كان هناك، ولا يزال، من أعطى أولويّته للصراع مع «الغرب» الذي يطابق صعوده التجمّعي، الطائفي في بعض البلدان والديني أو الإثني في بلدان أخرى.

وفرزٌ كهذا يمكن الاستدلال عليه في، صورة مصغّرة، بالرجوع الى الحزب الشيوعي اللبناني. فقد كان حليفاً أساسياً لكمال جنبلاط بقدر ما كانت أكثريّته، مع اندلاع حرب 1975، شيعيّة المذهب. أما الانشقاق الذي ألمّ به وفرز «حركة اليسار الديموقراطي» القريبة من وليد جنبلاط، فينتمي الى انشطارات أخرى عرفتها البيئة اليسارية العربية، واضعةً من يعطون أولويّتهم لمكافحة التخلّف والاستبداد، ومن ثم بناء الدولة المستقلة والحديثة، في مواجهة رفاق سابقين تذهب أولويّتهم الى مقاتلة «الإمبريالية»، وبعد ذاك نرى أيّ السكاكين ستذبحنا.