حاول الديبلوماسيون البريطانيون وضع ابتسامة شبه متفائلة على الوجوه المقتضبة عقب اجتماع الترويكا الأوروبية (بريطانيا والمانيا وفرنسا)، وممثلي الصين وروسيا، هذا الأسبوع في لندن لتنسيق التعامل مع ما يبدو رغبة ايرانية جارفة لتصنيع القنبلة النووية.

تقاطع عدة عوامل تجارية وسياسية وجغرافية، مع العجز التاريخي للأمم المتحدة عن إنجاز أي شيء يمكنان ايران من وضع العالم فوق كرة متدحرجة.

أسرت إيران قاربا للبحرية العراقية بجنوده للتذكير بأن قوات التحالف في العراق هي مشروع «رهائن»، كموظفي السفارة الامريكية في طهران الذين حبسوا 444 يوما في مطلع الثورة الاسلامية «الخومينية»، اذا ما تجرأ المجتمع الدولي وحاول كبح الشهوة الايرانية عن ممارسة الفاحشة النووية.

واذا كانت المهمة الأسمى لفن السياسة الدولية هي الاحتياط ضد الشرور ومحاولة منعها، فإن على الديبلوماسية العالمية اليوم تجنب الفشل في مهمة الحفاظ على الأمن والاستقرار وسلامة العالم. الحقيقة المؤلمة أن العالم لم يمنع الايرانيين من انتخاب رئيس، هو بكل المقاييس الموضوعية في الطب والفلسفة والقانون، يقف على حافة الجنون.

تخيل، أيها القارئ، ان يقتحم مكتبك رجل يردد المقولات التالية كواقع يؤمن به:

إنه سيستقبل بنفسه المهدي المنتظر عشية القيامة؛ ويؤمن بمسح دولة كاملة (بأعراقها المختلفة ومسلميها ويهودييها ومسيحييها) من على الخريطة؛ وأن النازيين لم يقتلوا ملايين الضحايا في محارقهم...

هل ستمسك بالتليفون لتطلب عربة اسعاف مستشفى الامراض العقلية؟! أم تمسك بالقلم لتوقع على عريضة تؤيد امتلاك هذا الرجل لأسلحة نووية؟!

إذن: فالأعضاء الدائمون في مجلس الأمن والمانيا يسعون لمنع الاسلحة النووية من الوصول ليد الرجل الذي اقتحم مكتبك ـ احمدي نجادي.

والدكتور محمد البرادعي، الديبلوماسي المصري، المخضرم الهادئ، والبارد الأعصاب، الذي لم ينتقد أحدا ابدا لنصف قرن، كسر بروده ليوجه انتقادات مباشرة لايران في مقابلته مع نيوزويك واتهمها بإخفاء الحقائق عن أعين مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي يرأسها، ناصحا بضرورة ممارسة اقصى الضغوط الديبلوماسية المؤيدة باستخدام القوة لمنع انتاج السلاح النووي.

المشكلة في تطبيق هذه السياسة متعددة الابعاد، كالعثور على من يستدعي عربة اسعاف مستشفى الامراض العقلية. كما أن القوى العظمى لا تستطيع، وربما لا يريد بعضها، الاتفاق على الطريقة الفعالة، ولا أقول الأمثل، لإجبار ايران على الالتزام بالاعراف الدولية و«بإتيكيت» حسن الجوار.

أما الرئيس نجادي فيتمتع بجهاز مناعة سيكولوجي مقاوم لكل ما هو مألوف في شؤون السياسة الدولية، وبالتالي لن تحمله المعايير والضغوط الدولية المعتادة على تغيير رأيه، حتى ولو ضحى بنصف الشعب الايراني. وهذه بالمناسبة ظاهرة سيكولوجية عامة للمجانين من الزعماء الديماغوجيين. فهتلر مثلا أمر بإغراق انفاق المترو التي لجأ اليها نساء وأطفال بلاده ليعطل تقدم الجيش الأحمر على مخبئه، لتتاح له فرصة الزواج من عشيقته ايفا براون.

أما صدام حسين، فأقنع نفسه بأنه خرج منتصرا من «أم المعارك» عام 1991، وقبلها ألقى الغاز السام على اطفال ونساء حلبجة كضرورة سياسية.

وقارن ذلك مثلا بإقناع مثقفي وفناني فرنسا للجنرال الالماني المسؤول عن حامية باريس، قرب نهاية الحرب العالمية الثانية بالانسحاب وعدم مقاومة جيش الحلفاء إنقاذا لكنوز الفنون في متاحف عاصمة النور من التدمير، فابتلع كبرياءه العسكري وسحب جيشه ليترك كنوز الفنون للاجيال القادمة.

ولا تسمح الاحداث المتسارعة في العراق اليوم لأمريكا بالتحرك عسكريا باتجاه ايران ـ رغم أن هذا الخيار في حد ذاته يعتبر حماقة كبرى، تعمل الديبلوماسية البريطانية والأوروبية، ليل نهار، على منع الأمريكيين من ارتكابها.

وطلبت الترويكا الأوروبية من الوكالة الدولية للطاقة الذرية عقد جلسة طارئة في اول فبراير لعرض ملف ايران على مجلس الأمن، وهو ما قد يؤدي لفرض عقوبات على ايران. وهذا بدوره سلاح ذو حدين. فالعقوبات تضر بالطبقات الفقيرة وتقوي من بطش الديكتاتوريات؛ هذا اذا نجح المجلس في التوصل لقرار بفرضها.

فكيف تقنع الصين التي وقعت عقودا للتجارة بمليارات الدولارات مع ايران، بدعم قرار يعرقل النمو الاقتصادي الايراني الذي يعرضها للخسارة في هذه العقود؟

وحتى الديموقراطيات الغربية، ستجد صعوبة في اختيار عقوبات لا تؤثر على تصدير ايران للبترول، لأن ذلك سيدفع بأسعاره الى ارقام تخرب اقتصاديات العالم، وأزمات تؤدي الى سقوط حكومات.

وحتى روسيا، التي كانت منذ أسبوعين على استعداد للتضحية اقتصاديا لمنع وجود مخزون من «قنابل نووية اسلامية» على حدودها، عادت للتردد خشية خسارة مزيد من العقود لصالح الصين.

ولذا فاتخاذ إجراء فعال في مجلس الامن يبدو معضلة عويصة، وهو بالضبط ما دفع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير قبل ثلاثة اعوام الى موافقة الرئيس جورج بوش على عدم اللجوء لمجلس الامن عشية حرب العراق بعد إخفاق الأمم المتحدة في إجبار صدام على تنفيذ قرارات سابقة.

والأمر يحتاج الى مهارة الجان في فن ديبلوماسية السياسة الدولية، خاصة وان امريكا، القوة العظمى الوحيدة الباقية في العالم، تتعرض «للبهدلة» في العراق، كما انها فقدت مصداقيتها بعد الفشل في العثور على اسلحة الدمار الشامل العراقية.

وينسحب فقدان المصداقية الديبلوماسية على الترويكا ألاوروبية التي أخطأت في تحليلها للسياسة الايرانية، ومحاولات فتح جسور التفاهم مع ايران، وتردد وزير الخارجية البريطاني جاك سترو على طهران والعودة بخفي حنين. وبريطانيا هي المرشح الوحيد اليوم للديبلوماسية المعقدة، شريطة تغيير قاعدة التعامل الديبلوماسي مع ايران، وقد يتطلب الأمر استبدال جاك سترو بوزير خارجية آخر في التغيير الوزاري المرتقب. فقد يمكن اقناع الصين بدعم مجلس الامن في توجيه تحذير تحت الفصل السابع من الميثاق (الذي يتيح استخدام القوة) مقابل تعويض الصين اقتصاديا، وضمها الى محموعة الثمانية الكبار، وهي بالمناسبة أكثر جدارة وتأهلا من روسيا للانضمام للمجموعة لضخامة حجم سوقها ومعدلات النمو والكثافة السكانية فيها ومشاركتها في التجارة العالمية.

وهذه بدورها ورقة للعب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اذا أرادت بلاده البقاء في مجموعة الثمانية، واقناعه بأن ايران النووية قد تشكل جبهة مع الجمهوريات الاسلامية في وسط آسيا «لنصرة» المتطرفين الاسلاميين داخل هذه الجمهوريات.

أما الاقتراحات المضحكة كطرد ايران من مباريات كأس العالم لكرة القدم، ومنع الملالي من السفر للخارج، او مضاعفة الـ ( سي.أي.ايه) لجهودها من أجل إشعال ثورة في ايران، وهو أشد الاقتراحات اضحاكا، فنصيبها اسكتشات الكوميديا، وليس مسرح السياسة الدولية.

وبالفعل لا يبقى الا قرار واضح وجريء من مجلس الأمن، يتبعه عمل عسكري تحت راية الأمم المتحدة في حالة رفض طهران للقرار، بغارات جوية وصواريخ الكروز على المنشآت النووية الإيرانية. وسيتبع ذلك طبعا ردود فعل غاضبة من الأمم الاسلامية المختلفة، لكنها ستكون اقل ضررا مما قد يترتب على اتخاذ اسرائيل عملا عسكريا منفردا.

أما اذا صوتت البلدان الإسلامية ـ خاصة التي تتعرض للتهديد الايراني ـ مع قرار مجلس الأمن، فإن ذلك سيقوي العمل الديبلوماسي الدولي الذي يجب ان تقوده بريطانيا. أما عدم التحرك فليس بخيار حميد أو مرغوب على الاطلاق.