إن المتتبع لأقوال الرئيس بوش ونائبه تشيني عبر السنتين الماضيتين بشأن العراق والتمرد والاضطراب فيه، لا يحتاج إلى التعليق عليها لأنها تصرّح عن نفسها. ومع ذلك إذا حالفنا الحظ، وانفتحت خيارات القرار السياسي في البيت الأبيض، وأظهر القادة الديموقراطيون بعض الشجاعة، وكان هناك تشجيع من جانب القادة العراقيين الحقيقيين، فإن الحرب في العراق يمكن أن تنتهي خلال عام واحد. إن استراتيجية بوش القائلة: إما أن ننتصر وإما أن ننهزم هي في الحقيقة استراتيجية فاشلة. فمن خلال هذه الصياغة، يريد الرئيس بوش أن يوهم الشعب الأميركي أنه إما أن نبقى في العراق فننتصر، أو نخرج من العراق فننهزم! أما الفرصة الحقيقية أو الواقعية فتراوح بين: إبق دون نصر، أو أخرج بدون هزيمة. إن النصر الذي يقصده الأميركيون يتمثل في عراق موحد وديموقراطي وعلماني، وانتفاضته مهزومة من جانب الأميركيين وبمساعدة الجيش العراقي الجديد الموثوق الذي بنته الولايات المتحدة! لكن هذا الخيار غير مرجح. وذلك لأن نصراً كهذا يحتاج إلى المزيد من القوات الأميركية، وكذلك الأمر مع الدعم العراقي للأميركيين إذ يحتاج إلى قوات وطنية ذات دوافع أقوى. إن القوات الأميركية الحالية (والتي يوشك بعضها أن ينسحب)، لا تستطيع أن تهزم التمرد، وأن تمنع الانقسام السني ـ الشيعي في الوقت نفسه. وكلا الأمرين يشتد ويتفاقم خلال الأسابيع والشهور، مع ازدياد الكره الشعبي للاحتلال الأميركي. والأمر الثالث الملحوظ أن الشيعة والأكراد لن يضحوا بمصالحهم الذاتية من أجل عراق موحد ومندمج، مع جيش وطني واحد وحقيقي. وكما أشارت الشهور والأعوام الماضية، فإن كلاً من الشيعة والأكراد يملكون مصلحة مشتركة تتمثل في عدم عودة الهيمنة السنية؛ مع إصرار كل منهما على مصالحه الخاصة والذاتية بالابقاء على ميليشياته وتأكيد انتصاره، وعلى حساب السنة بالذات. وفي هذا السياق، فإن جيشاً حقيقياً وموحداً ليس أكثر من وهم. وهكذا فالاصرار على النصر بهذا المعنى لن تكون من ورائه فائدة غير ارتفاع النفقات، وبذل الدماء الأميركية، فضلاً عن ازدياد كراهية أميركا لدى المسلمين، والاضرار على المستوى الدولي، والاضرار على سمعة أميركا ومكانتها الأخلاقية في العالم.

إن مفهوم الادارة الأميركية خطأ وتضليل. فالرسميون وغير الرسميين يتحدثون دائماً متذكرين ماضي الكوابيس في فيتنام: دول تتساقط، والولايات المتحدة فاقدة للصدقية، وفاقدة أيضاً للقوة العسكرية الفخورة والمنتظمة، ويضيف راسمو السيناريو هنا أن متمردي العراق إذن سوف يسبحون في المحيط الأطلسي وشن حملة إرهابية على الوطن الأميركي.

إن الخيار الحقيقي هو بين: قبول حقائق الموقف بالعراق، وهو موقف معقد؛ وذلك من طريق الانفصال التدريجي عن العراق، والذي قد يتضمن مرحلة انتقالية فيها ربما تصاعد في الانقسام السياسي؛ في الوقت الذي ينخفض فيه الغبار، وتقوم الأكثرية الحقيقية بصنع ترتيباتها السياسية ـ أو الاستمرار في احتلال العراق لسنوات طويلة، دونما هدف واضح ومحدد. ومن المشكوك فيه على الأقل، أن يدعم الداخل الأميركي سياسة كهذه ومن طريق شعارات مثل أن "العراق هو الجبهة المتقدمة لمكافحة الارهاب العالمي". بل على العكس فإن انسحاباً تدريجياً بنهاية العام 2006، يمكن أن يوصل إلى نتائج إيجابية، كما يمكن أن يضمن أن التراجع العسكري ليس قرينا للهزيمة.

في عراق تسيطر فيه أكثرية من الأكراد والشيعة تبلغ نحو الـ75% من الشعب العراقي، تكون لهؤلاء مصلحة مشتركة في دولة عراقية مستقلة. والواقع أن الحكم الذاتي الكردي يصل الآن إلى درجة السيادة تقريباً، ولا يمكن الزيادة عليه وإلا تهدّدته تركيا. والشيعة العراقيون هم عرب بالدرجة الأولى، وليس من صالحهم أن يكونوا تابعين لايران. وعندما يدرك السنّة أنهم سيواجهون تحالفاً أكثرياً كردياً شيعياً وسط انسحاب أميركي، فإنهم سيميلون للتلاؤم؛ وبخاصة مع زوال وهج مقاومة المحتل الأجنبي. وبالإضافة لذلك فإن كلاً من الكويت والمقاطعة الكردية سيكونان بحاجة إلى بعض التأمين العسكري الأميركي خوفاً من اضطرابات مفاجئة. وعندما تنهي الولايات المتحدة وجودها العسكري، فسيكون سهلاً قبول الدول الاسلامية حضوراً عسكرياً مؤقتاً بالعراق، وسيساعد حضور هؤلاء على التخفيف من المشاعر السلبية تجاه الأميركيين في المنطقة.
وعلى أي حال، فإن السياسات العراقية وقد صارت سياسات تنافسية بالتدريج، ستفضي للتنافس أيضاً في المطالبة بجلاء القوات الأجنبية عن العراق، وبخاصة من جانب القادة الحقيقيين الذين سيضطرون لشرعنة وجودهم لدى الرأي العام، وليس أولئك الذين أتوا مع الولايات المتحدة. وهذا ليس أمراً سيئاً، فالواقع أن هذا يدعو للتشجيع، لأن الولايات المتحدة تستطيع عندها القول "ان المهمة أنجزت".

إن الشرط الضروري للخطوة الأولى من جانب الرئيس هو الخروج من قفص المواجهة الذي وضع نفسه فيه. فسياساته وخطاباته حتى الآن لا يقبلها منه غير "المؤمنين" الذين كانوا من وراء الحملة على العراق. وعندهم رهان أيديولوجي في ما يتعلق بمفهوم الانتصار، وهم يعملون على تقوية "إيمان" الرئيس بتلك القناعة المفهومية، بدلاً من مراجعة القناعات في ضوء التجارب. إن الرئيس محتاج بشدة إلى توسيع دائرة مستشاريه.

ثم ان على قادة الحزب الديموقراطي الكف عن قطع الأشجار في الوقت الذي يجنون فيه الثمار. فالذين يريدون المنافسة على القيادة عام 2008 ليسوا من الشجاعة بحيث يقولون ان البقاء بالعراق ليس انتصاراً وليس ممكناً، فهم يخافون أن يعتبروا غير وطنيين. بينما الواقع أن الذين يبحثون عن خيار عملي، إنما يخدمون مصالح الناخبين ومصالح الولايات المتحدة.

إن الولايات المتحدة تحتاج إلى خيار حقيقي يخرجها من هذه المغامرة البائسة التي أفضت إلى غزو العراق، وتضييع فرص وسنوات وآمال غالية.