نبيل شبيب

بسم الله الرحمن الرحيم
18/12/1426هـ و18/1/2006م

رسالة مفتوحة إلى الرئيس السوري بشار الأسد

الإصلاح الجذري الداخلي شرط لا غنى عنه لمواجهة الأخطار الخارجية

الرسائل المفتوحة أسلوب يُتّبع عادة عندما لا يُنتظر جواب، ويُراد البيان، وفي القضيّة السورية لم يعد يوجد مجال للانتظار طويلا، ولكن رغم وجود دلائل عديدة على عدم جدوى البيان، يبقى بصيص أمل.. فلعلّ وعسى.. وكان هذا ما دفع إلى نشر هذه الرسالة المفتوحة للمرة الأولى يوم 23/3/1424 هـ و24/5/2003م، وبقي مضمونها ساري المفعول حتى إعادة نشرها وقد ظهر حجم المأزق السوري الخارجي والداخلي أكثر ممّا مضى.

فقرات الموضوع:
مخاطر خارجية ومعطيات داخلية
عدم كفاية الإجراءات الجزئية
مطالب أساسية
وبعد..

سيادة الرئيس السوري بشار الأسد

تحية طيبة وبعد،

فيكتب إليكم فرد من بين عدد كبير من أبناء سورية الذين حُرموا من بلدهم وأهلهم منذ سنين عديدة.. لأسباب لا تتحدّث عنها هذه الرسالة المفتوحة، لوجود ظروف جديدة، باتت ترتبط بمصائر "الجميع" داخل البلاد وخارجها. إذ تعلمون أنّ الأخطار الجسيمة التي تتعرّض لها بلادنا جميعا، لا سيما سوريّة، قد ازدادت حجما وعنفا بعد الحرب العدوانية ضدّ العراق، وبعد كلّ ما وصلت إليه العلاقة الاندماجية الأمريكية-الإسرائيلية من تطابق في الرؤى والأهداف، وفي التخطيط والتنفيذ، وفي الأساليب والوسائل.

المخاطر والمعطيات الداخلية

إنّ هذه الأخطار لا تزول من خلال تقديم التنازلات، حتى وإن تبدّلت لهجة التعبير عن تلك الأخطار مؤقتا، فهذه الأخطار باقية من حيث الأصل ومتنامية، من وراء سائر فترات "التهدئة.. والمناورة.. والمساومة..".

ولا يمكن مواجهة الأخطار الجسيمة، الراهنة والمستقبلية على المستوى المطلوب إطلاقا، طالما استمرّت في بلادنا النزاعات الداخلية في الوطن الواحد والثنائية ما بين الدول، فالمطلوب هو تعبئة شاملة لسائر القوى والإمكانات، وتوظيفها فيما يحقّق الأهداف المشروعة الجليلة التي تتطلّع إليها شعوبنا، ولم تصل إلى القسط الأعظم منها، سواء على مستوى الحريات والحقوق الداخلية، أو على مستوى الأمن الخارجي والداخلي، أو على مستوى التقدّم والرقيّ والتغلّب على مختلف ألوان التخلّف والجهل والضعف، وجميع ذلك من العناصر التي لا غنى عنها في صناعة قوّة الصمود ودرء الأخطار ومنع العدوان الأجنبي من تحقيق أغراضه، فضلا عن استرجاع ما سبق اغتصابه.

وإنّ هذه الرسالة الموجّهة إليكم تنطلق من ثلاثة أمور:

- بغضّ النظر عن التفاصيل وتعدّد زوايا النظر، أصبحت السياسة الرسمية السورية من بين السياسات العربية، هي السياسة الأقلّ بعداً بمقياس الممكن واقعيا في المرحلة الدقيقة الراهنة، عن تطلّعات الشعوب في مواجهة الأخطار الخارجية الأمريكية والإسرائيلية، وتحقيق أهداف مرحلية، بعيدا عن الانسياق بأسلوب الهرولة والتسليم لما يُطرح من مشاريع تدور في حصيلتها حول ترسيخ الاغتصاب بفلسطين، والهيمنة الأمريكية-الصهيونية في المنطقة بمجموعها.

ونعلم أنّ هذه السياسة المعارضة تجد -كحدّ أدنى مفروض ومطلوب- ما يضاهي الإجماع بين التيارات والاتجاهات داخل سورية وخارجها، رسميا وشعبيا، إلى جانب انتشار الاقتناع بأنّ مواجهة هذه الأخطار الخارجية لها الأولوية على بعض الاعتبارات الأخرى على الصعيد الداخلي.

- الخطّ العامّ في الكلمات الأولى التي صدرت عنكم في أكثر من مناسبة يؤكّد أنّ كثيرا من القضايا ذات العلاقة بالأوضاع السياسية بأبعادها الثقافية والتاريخية، يجد لديكم شخصيا درجةً من المعرفة والرؤية الثاقبة، تسمح بترجيح أنّكم تقدّرون، ربّما أكثر من مسؤولين معاصرين آخرين، ما يعنيه تصعيد الهجمة الأمريكية-الإسرائيلية بالنسبة إلى سائر دول المنطقة وشعوبها، في المستقبل القريب والبعيد، وبما يشمل مختلف التيارات والاتجاهات والطوائف والأقليات دون تمييز.

ولا ريب أنّ هذه الرؤية لا تكتمل دون الاقتناع بأنّ تعزيز الجبهة الداخلية، الواجب في الأصل، أصبح في الوقت الحاضر ضرورة مصيرية، وأنّ عدم الإقدام على ذلك على الوجه الأمثل والفعّال ودون تأخير، أصبح بحدّ ذاته بابا خطيرا من أبواب إضعاف القدرة الذاتية على الصمود والمواجهة، ولا يغيّر من ذلك القول إنّ ظروف سورية تختلف عن ظروف العراق مثلا، فما يواجه سورية يتّخذ شكلا آخر، وتبقى النتائج متشابهة.

- بغضّ النظر عن الأخطار الخارجية الآنية، ذات الأبعاد المستقبلية، لا يزال حديثكم في مطلع استلامكم منصب الرئاسة، عن انفتاح سياسي داخلي في سورية، يحظى بقدر ما من الثقة في أوساطٍ سوريّةٍ عديدة خارج البلاد وداخلها، رغم أنّ بعض الخطوات الأولى في هذا الاتجاه، أعقبتها ممارسات سياسية عرّضت هذه الثقة إلى الاهتزاز والاضمحلال.

عدم كفاية الإجراءات الجزئية والفوقية

سيادة الرئيس السوري

هذه المنطلقات الثلاث تدفع إلى توجيه الكلام إليكم، مع التذكير بما لا يخفى على أحد، ممّا شهدته سورية داخليا في عشرات السنين الماضية، وما خلّفته الأحداث والمواجهات من آلام، وما أدّت إليه من خسارة مشاركة نسبة كبيرة من الطاقات المخلصة السورية في بناء البلد الذي تنتمي إليه ولا تتخلّى عنه بطوعها.

كما لا يخفى وجود أوضاع معيّنة في سورية، سبق أن شاركتم أنتم في مواجهة جانب منها في فترة مكافحة الفساد الاقتصادي، وما زلتم تواجهون المزيد ولا سيما على صعيد الوضع الاقتصادي، بينما بقي الكثير بعيدا عن الاهتمام العملي الجادّ، ممّا تركّز عليه مطالب فئات عديدة من الشعب في الداخل، مثلما يركّز عليه الناشطون فيما يسمّى "المعارضة في الخارج" بعد حرمانهم من ممارسة حقّهم في المعارضة والعمل السياسي داخل حدود بلدهم.

إنّ من شأن تلبية المطالب الشعبية المشروعة، أن يعزّز الجبهة الداخلية، وقد يحرّك الأوضاع في بلدان عربية أخرى تفتقر إلى الإصلاح السياسي الداخلي أيضا.

ولا تتحقّق الاستجابة لهذه المطالب من خلال إجراءات جزئيّة مضمونا ومفعولا، أو شكلية لا تعالج المشكلات القائمة من جذورها، ولم يعد في ظلّ الطروف الراهنة مقبولا أن تكون خطوات الإصلاح السياسي الداخلي الضروري بطيئة، بينما تضاعفت سرعة إحاطة سورية بالأخطار الخارجية بصورة ملحوظة. لا سيّما وأنّه قد صدر عن عدد كبير من الناشطين المعارضين في الخارج والداخل، بمختلف تياراتهم، ما يؤكّد الاستعداد الصادق لتجاوز آلام خلّفتها حقبة سابقة، وفتح صفحة جديدة قائمة على الثقة التي لا تصنعها إلاّ إجراءات جذرية وجادة، على مختلف المستويات التشريعية والتنفيذية والقضائية والدستورية.

ولا يخفى عليكم أيضا أنّ تأكيد هذه المطالب مرّة بعد أخرى، يحمل في طيّاته الدليل على أنّها لا تنطلق ولا ينبغي أن تنطلق من التعامل مع المزاعم الأمريكية بشأن "نشر الديمقراطية" في البلدان العربية، فهي بحدّ ذاتها المطالب الشعبية المطروحة من حيث الجوهر منذ عشرات السنين، ومن هنا تأكيد عدم صحّة أخذ تلك المزاعم ذريعة في عدم تلبية مطالب شعبية مشروعة وأصيلة، كانت من قبل الهجمة الأمريكية الأخيرة، وتبقى مشروعة ومطروحة إذا اضمحلّت تلك الهجمة وتراجعت، فلا شأن لهذا بذاك.

مطالب أساسية

سيادة الرئيس السوري
تعلمون أيضا أنّ الحرب ضدّ العراق على وجه التخصيص أثبتت ما كان معروفا نظريا على الأقل، بأنّ كلّ تغييب للقوّة الشعبية القائمة على إقرار الحقوق والحريات دون تمييز، وعلى تكافؤ الفرص في مختلف الميادين دون محاباة، وعلى توفير الأمن وسيادة القضاء والقانون دون تزييف، وعلى عدم انفراد أيّ حزب أو فئة أو طائفة أو تيّار في السلطة إلى درجة الاحتكار المطلق.. هذا التغييب لا بدّ أن يفتح الأبواب أمام الأخطار الخارجية على مصراعيها، ولا تغني عن ذلك استعداداتٌ عسكرية أو أجهزة أمنية أو علاقات عربية ودولية.

إنّ الإصلاح السياسي الداخلي المطلوب اليوم بإلحاح أكثر من أيّ يوم مضى، يجب أن يتضمّن:

- إصلاحا دستوريا قائما على أساس من الضمانات في صياغة النصوص، وتثبيت مرجعية دستورية لمحكمة دستورية عليا مستقلة، وبما يكفل النزاهة والشفافية ويوصل إلى وضع دستوري يقنع سائر فئات الشعب وتياراته بأنّه للمواطنين جميعا، في الداخل والخارج، بعيدا عن مختلف أشكال الوصاية، وبما يشمل إجراءات كافية لمنع ظهور أيّ شبهة من شبهات التزوير والتزييف، لتكون الأرضية الدستورية مشتركة يقبل بها الجميع، ولتقوم فعلا لا كلاما على أساس المساواة بين المواطنين، من فوق أيّ انتماء حزبي أو غير حزبي، وعلى أساس ما نشأت عليه سورية وسواها من البلدان العربية والإسلامية، من ثوابت، عقدية وحضارية مشتركة، لا سياسية مؤقتة أو حزبية مفرّقة، وهي الثوابت التي ما زالت الأحداث الإقليمية والدولية تؤكّد مرّة بعد مرّة أهمية التمسّك بها والانطلاق منها في بناء المجتمعات والدول في بلادنا.

- إصلاحا قانونيا يلغي التشريعات التي وُضعت في ظلّ ظروف نزاعات داخلية، أو أطماع حزبية، أو ممارسات استبدادية، وإعادة الاستقلال التامّ للقضاء، بتشكيلاته المختلفة، في ظلّ سيادة القانون وتطبيقه دون استثناء أيّ فردٍ أو فئة، وإلغاء حالة الطوارئ وقَصْر التشريعات القانونية الخاصّة بها على حالات استثنائية معتبرة، ممّا يمثل خطرا حقيقيا، داهما ومباشرا، يسوّغها لفترة مؤقتة فحسب كما هو في الدساتير المعتبرة عالميا، وهذا مع تقييدها وتقييد تطبيقها في حالة الاضطرار إليها، بالقيود الزمنية والتشريعية التطبيقية الواضحة، والكفيلة بضمان عدم إساءة استخدامها، إلى جانب الفصل بين السلطات الثلاث، وضمان رقابة السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية، دون بقاء ما يحدّ من ذلك من قوانين استثنائية أو غير استثنائية، وممارسات قائمة على الأجهزة الأمنية في غياب القضاء أو تغييبه.

- رفع مختلف القيود المفروضة على الحريّات العامة والحقوق الأساسية، للمواطن الفرد، وللتجمّعات والتشكيلات الحزبية وغير الحزبية، القائمة على منطلقات الانتماء الإسلامي والعربي، عقيدة وحضارة ووطنيّة صادقة، في الميادين السياسية وغير السياسية، وإطلاق سراح سائر المعتقلين بمحاكمات أو دون محاكمات، ممّن يوصفون بسجناء الرأي، وإن اتخذت الاعتقالات صبغة توجيه اتهامات "جنائية" في ظلّ ظروف شاذّة، بالإضافة إلى تحويل أجهزة المخابرات إلى متابعة الأخطار الخارجية، وحصر مهامّ أجهزة الأمن الداخلي في الحفاظ على أمن المواطنين وسلامتهم، بعيدا عن روح المواجهات ما بين الشعب والسلطات، أو بين حزب حاكم بمفرده وأطراف سياسية معارضة.

وبعد..

سيادة الرئيس السوري
نربأ بكم الانتظار مزيدا من الزمن، بعد أن أصبحت بلادنا، ولا سيما سورية، تواجه بصورة مباشرة تداعيات قضية العراق إقليميا، لا تداعيات قضية فلسطين المصيرية فقط، وتواجه تصعيد الهجمة العسكرية الأمريكية المباشرة على بلادنا، لا الضغوط السياسية وغير السياسية فحسب، إضافة إلى ما نواجهه في عصر العولمة من أعباء ثقيلة، باتت الدول الكبيرة تسعى للتكتّل من أجل مواجهتها، ولا يمكن القبول إزاءها باستمرار ضعف أقطارنا العربية والإسلامية، نتيجة ترسيخ أسباب الخلاف والنزاع داخل القطر الواحد، وعلى مستوى العلاقات الثنائية والجماعية فيما بينها.

إنّنا نأمل في أن تصدر عنكم مباشرة مواقف علنية واضحة صريحة، وقويّة جريئة، تتضمّن الدعوة المباشرة إلى سائر فئات الشعب السوري، في الداخل والخارج، إلى التلاقي على مسيرة الإصلاح السياسي الداخلي، الفوري الشامل، وإلى فتح صفحة جديدة، غير مقيّدة باستمرارية أوضاع مرفوضة، مع التأكيد على ما يعطي الثقة في جديّة الانتقال بالوعود إلى التطبيق الفوري، واتّخاذ ما يكفي من الإجراءات لتوطيد أسباب الثقة من جديد، وتوفير الشروط اللازمة لتعبئة سائر القوى على اختلاف مسمّياتها واتجاهاتها، في اتجاه البناء الداخلي ومواجهة الأخطار الخارجية.

وبعد، فهذه كلمات صادقة تعلمون أنّها لا تعبّر عن شخص بمفرده، بل عن قطاع كبير من أبناء سورية، يتطلّعون إلى ما يحقّق الازدهار والعزّة والمنعة، ويجعلها منطلقا للتحرّر والوحدة والكرامة على مستوى العرب والمسلمين جميعا، نأمل أن تصل إليكم، وأن تجد لديكم وقفة صادقة، وقرارا حاسما، وتحرّكا فعالا، والله من وراء القصد.

مع أطيب السلام