لم يفجر السيد عبد الحليم خدام قنبلة إقليمية بإعلانه قرار الدخول في قضية الحريري ولجنة التحقيق الدولية، ليس كشاهد وحسب، بل كطرف يوجه أصابع الاتهام. ولكنه أيضا قرر وضع إصبع ديناميت في فضاء المعارضة السورية المضطرب منذ عادت أسطوانة التدخل الخارجي ودوره في التغيير الداخلي لتدغدغ مشاعر كل ذي شهوة لسلطة أو مال أو تحسين حال.

ويمكن القول، أن السلطة السورية، بعد أن حرمت نفسها من الجرأة الضرورية للخروج من الوضع الديكتاتوري، منذ غياب صانعه الرئيسي، عبر فترة انتقال ضرورية لتجديد جلدها وتنفس المجتمع، هذه السلطة وضعت نفسها في حالة مواجهة مفتوحة مع هذا المجتمع، الذي بادر عبر قواه السياسية والمدنية لإنقاذها وإنقاذ البلاد من استبداد وفساد حولاها من "قوة إقليمية" إلى بطن رخو دون قلب أو روح. فصرخ عتاتها القدامى على لسان خدام "الجزأرة قادمة"، وارتجف جيلها الجديد من مبادرات لم يستوعب أهميتها ولم يرَ فيها سوى طلب شراكة في الثروة والسلطة.

قصر النظر هذا يمكن أن يسمى خطأ في السياسة العامة والاختيارات لو كان في بلد مثل بوركينا فاسو، أو في أراض منسية من الحسّاد والعباد. أما أن يحدث في بلد مجاور للحليف الأهم في العالم للولايات المتحدة، اللاحرب واللا سلم معه لا ينسينا احتلاله للجولان، بلد مجاور للعراق المحتل بقرابة 150 ألف جندي أميركي، بلد احتفظ للأمس القريب بأرتال من جيشه على الأراضي اللبنانية رغم لا شعبية هذا التواجد سوريا ولبنانيا، وأخيرا بلد محاط شمالا وجنوبا بحليفين قديمين للولايات المتحدة، هنا يختلف الأمر.

استعمل الرئيس حافظ الأسد الوقت كوسيلة للسيطرة الداخلية وتنظيم العلاقات الخارجية، كان ذلك في فترة جمّدت فيها الصراعات الدولية أهمية الزمن الضائع الإقليمي، الأمر الذي سمح له بنسيان آلاف المعتقلين عقدين من الزمن في السجون دون رد فعل متناسب داخل الحدود أو خارجها، إضافة للتمتع بحقوق الخطأ والصواب في إدارة الدولة. لكن العالم تغير، والظروف تغيرت، وإن كان العلم بوجود معتقل في السجون يحتاج لأشهر أحيانا قبل ربع قرن فهو لا يحتاج لأكثر من دقائق اليوم. الثورة السبرانية والمعلوماتية حوّلت الرقابة والتعتيمات الأمنية إلى أساليب بالية وباهتة، وقد شيّع العالم أنموذج الحزب الواحد دون أسف عليه في معظم الدول التي اعتبرت الحزب القائد أسلوبا للحكم.

لم تستوعب السلطات السورية حقائق المرحلة الجديدة: لم تفهم أن بقاء قوات سورية في لبنان أصبح ورقة ضدها لا ورقة لها، وأن استمرار النهج الأمني في حكم الناس سيعطي ردود فعل جديدة لا يمكن رصدها أو إحصاءها أو السيطرة عليها بسهولة، وأن تغييب المجتمع عن المشاركة السياسة والمدنية يجعل السلطة نفسها بلا غطاء دولي باعتبارها لا تملك المناعة الذاتية اللازمة لمواجهة الرهانات الإقليمية الجديدة.

باختصار، السلطة السياسية اليوم، لم تدرك بعد أهمية الإصلاح السياسي الضروري والعاجل، ومازالت تلقي بفتات التصريحات وشبه القرارات عن قانون جديد للأحزاب والصحافة الخ... وتنسى أننا وصلنا الى وضع يمكن القول فيه دون مبالغة أن رفع حالة الطوارئ دون تعديل ودمقرطة دستور البلاد يعد خطوة أقل من المطلوب، ليس فقط في مسار تكسير حالة الاستعصاء التي أوصلتنا الدولة التسلطية إليها، بل ولمواجهة المخاطر التي تعصف بسفينة الوطن.

ولكن أين هي المعارضة الديموقراطية من هذا كله؟

منذ إضراب اليوم الواحد عام 1980، برز اتجاه قوي نحو التحرك السياسي والنقابي والشعبي الداخلي من أجل التغيير يتجاوز حدود التعبيرات السياسية المنظمة. هذا الاتجاه، كان للطليعة المقاتلة لـ"الاخوان المسلمين" وأجهزة الأمن مصلحة في ضربه، فوزعت الطليعة يومها منشورها المعروف: "عودوا إلى جحوركم، الثورة ستكون إسلامية أو لن تكون"، وكتب رفعت الأسد مقالاته المعروفة التي قال فيها "من ليس معنا فهو مع الإخوان" . كادت المعارضة الوطنية الديموقراطية أن تذهب مع الريح لولا الطريق المسدود الذي وصل إليه كلا الطرفين المتطرفين وأوصلا البلاد إليه. تمت عملية غسل الجامعات والمراكز التعليمية والبحثية من المعارضين والمستقلين ودخل السجون أكثر من ألف كادرٍ وعالمٍ وجامعي عدا آلاف المعتقلين والقتلى في مجازر لم تفتح ملفاتها بعد.

تحررت حركة "الإخوان" من خطاب الطليعة وأبعد حافظ الأسد شقيقه عن السلطة، إلا أن الأولى شكلت التحالف الوطني لتحرير سوريا مع حزب البعث الموالي للعراق ورسخ الأسد غياب الحريات باسم الخطرين الداخلي والخارجي. وقد اجتمع أهم صانعي التحالف (عدنان سعد الدين وأمين الحافظ) بعدد من المثقفين السوريين في باريس في بيت السيد عدنان بدر، وقلت يومها في جلسة حادة: لقد ولد التحالف ميتا، توقفوا عن إضاعة الوقت، الخط البياني للحركة الأقوى في التحالف وهي "الإخوان المسلمين" نازل، ولا يمكن أن يعود لقوته بهذه الطريقة. عودوا للجغرافيا السياسية والسكانية السورية من أجل تعزيز وضع المعارضة المجدية الموجودة داخل البلاد.

كان بين الجالسين من يتلقى مرتبه من تونس (منظمة التحرير الفلسطينية) أو بغداد صدام، وكان من الصعب عليهم الاستماع لهذا الخطاب.

بعد فشل تجربة التحالف الوطني لتحرير سوريا (المستقوي آنذاك بالسلطة العراقية وحلفائها) تعززت فكرة الاستقلالية السياسية أكثر فأكثر، وكانت التسعينات بالفعل حقبة خصبة للخروج من التجربة المرة (78-1982). وبدأ ما سميته في 1988 الشرخ الهادم بين القوى الكردية والعربية يتراجع، وإن لم يكن بالوتيرة المطلوبة، وقام حوار جدي بين رموز حقوقية وعلمانية معارضة مع حركة "الإخوان المسلمين" أدى إلى تطور في الخطاب السياسي للمشاركين فيه. وفي حقبة ما بعد الرئيس حافظ الاسد، نشأت منتديات ومنظمات غير حكومية جديدة وأصبح الفضاء السياسي والمدني حديث الناس وإن لم ينجح في الإنتاج الواسع لجمهور يحميه.

يجب التذكير دائما، بأنه من نتائج القمع المنهجي خلال عقود ثلاثة حرمان المعارضة الديموقراطية من بناء كوادرها وشبكة علاقاتها المجتمعية بشكل طبيعي، وقد تأخرت حواراتها مع المعارضة الإسلامية والكردية برغم أن الأحزاب الكردية الأساسية نبذت أية فكرة للعنف السياسي أو الانفصال عن الكيان السوري، في حين تكفل القانون 49 بردع كل من يحاور "حركة الإخوان المسلمين" او يتصل بها. الأمر الذي خلق تصورات سياسية غالبا ما كانت ابنة حوارات البيت الواحد. وحتى اليوم، عندما تجري اجتماعات تجمع العرب والأكراد السوريين يتجلى وجود خطاب لا يخلو من الحدة وأحيانا التشنج، لعدم إنضاج خطاب ديموقراطي مشترك يعبر عن حقوق المواطنة والحقوق القومية في آن واحد.

الحقيقة أن المعارضة الديموقراطية، السياسية والمدنية، التي كونت رصيدا عربيا مهماً، بعكس نظيرتها العراقية، إنما نجحت في ذلك، بسبب مواقفها الحكيمة أكثر مما بسبب إعلامها الكبير أو شبكة علاقاتها الواسعة والمتينة. ويمكن القول اليوم، أن الرصيد الأخلاقي والاعتباري (الكاريزمي) الذي اكتسبته المعارضة الوطنية الديموقراطية كان محصلة تأكيدها المبكر على مشروع ديموقراطي (دون لواحق: ثورية أو شعبية وأخيرا ليبرالية)، وإصرارها على خط سياسي مستقل ينبع من حاجات المجتمع والبلد وينطلق من الاقتناعات السياسية للتنظيم السياسي لا من ارتباطاته الإقليمية أو الدولية، وأخيرا جمعها الذكي والدينامي لمفهوم الوطن والمواطنة، كرفض لربط المشروع الوطني بديكتاتورية حوّلت البلد مستنقع قمع وفساد وجعلت من الأراضي المحتلة مجرد موضوع تفاوض.

هذا النهج السياسي الصلب، لم يمتلك دائما الأدوات البشرية والمادية التي تعطيه القدرة على لعب دور أساسي في التغيير خارج نطاق النخبة. ولم يكن قبالته خصم سياسي شريف، فالسلطة تعاملت مع المعارضة دائما بغاية مسحها أو مسخها، ولم يكن لدى الرئيس حافظ الأسد من يملك رؤية أخرى للتعامل مع المعارضين، لذا كانت التهمة الأجمل التعامل مع الخارج أو "كمب دافيد"، والأبشع عملاء "الموساد".

احتلال العراق حطم مسلمات كثيرة وخلق أجواء مضطربة. وقد أوجدت السياسة القائمة على بناء معارضة على الطريقة الأميركية في صفوف بعض يتامى صدام حسين وقدماء الماركسيين والمثقفين الاستئصاليين عنصرا مشتركا اسمه معادلة الخارج لموازنة الاضطراب في الداخل. لا يمتلك هؤلاء النضج السياسي أو الشعبية اللازمة ليكونوا طرفا في جسم المعارضة الديموقراطية، ولا تمتلك الأخيرة الحق في استئصالهم. هم هم وهي هي.

المعارض عبد الحليم خدام ولد معارضا في هذا المعمعان الداخلي الذي لا يمكن قراءة معالمه دون تتبع الخريطة الإقليمية والدولية. فإقليميا، هناك ملف المرحوم الحريري والتغيير السياسي في لبنان والانصياع العربي للسياسة الأميركية وتفوق عسكري إسرائيلي واضح. ودوليا، لم تعد الإدارة الأميركية تملك الأوراق الداخلية الضرورية لاستمرارها في سياسة "الفوضى البناءة"، ويمكن القول مع كلوفيس مقصود أن الضاغط علينا مضغوط عليه، وبالتالي فهو يحتاج لانتصارات سياسية تغطي اضطراب خياراته العسكرية، خاصة أن أميركا اللاتينية ضمت منذ أيام دولة خامسة (التشيلي) إلى معسكر الدول التي إن لم نقل انها ناقدة، فهي مستقلة القرار عن الإدارة الأميركية.

لن ندخل مجادلات الملف الأمني والملف السياسي لخدام، هناك سؤال ضروري من المفيد للمعارضة الديموقراطية أن تعطي إجابة واضحة عليه:

هل تعتبر هذه المعارضة اغتيال الحريري بمثابة 11 أيلول إقليمي يمكن أن يترتب عليه زلزال كبير يشمل تغييرا سياسيا في قمة السلطة في سوريا إن لم نقل للسلطة وقمتها؟

لم تعط المعارضة السورية ردا واحدا على هذا السؤال، فعشية تقرير ميليس الثاني طالب المناضل رياض الترك باستقالة الدكتور بشار الأسد، في حين اكتفت اللجنة الموقتة لـ"اعلان دمشق" بالمطالبة باحترام المطالب الأممية في التحقيق الدولي. ومن الضروري الإشارة إلى أن قطاعاً مهماً يعتبر بالفعل أن هناك أوضاعاً جديدة تحتاج للمواجهة بأساليب وخطاب جديد.

هنا يدخل على الخط معطى ثالث لم يكن بالحسبان، هو أن المجتمع السوري بغالبيته التي اعتدنا على تسميتها الصامتة غير صامت اليوم، هذه الغالبية تعبر عن مخاوف جدية من الفوضى والعنف والمجهول، وبعكس ما توقع بعض قدماء المادية الجدلية، فقد خلقت الأحداث اللبنانية ردود فعل سورية متطرفة مضادة لصيحات "سوريا اطلعي بره" عند الشارع السوري عززها الاعتداء على عمال سوريين دون استنكار يوازي هذا الحدث ومبالغة في وسائل الإعلام اللبناني المناهض للسياسة السورية لا سابق لها في قضية الحريري. هذه الشوفينية العفوية (وليس المنظمة من الأمن كما يقول البعض) تصل إلى حد الكره لشخصيات سياسية لبنانية حجت طويلا الى دمشق وتحج اليوم لعواصم أخرى، وعبارات حادة في موضوع الحريري (من نمط: الملك فيصل ما صار له هيك!!) وقد وصل الأمر للتهجم على بعض الكتّاب السوريين من خيرة كوادر البلد الذين يكتبون منذ زمن في "النهار" أو لهم علاقات صحافية أو اجتماعية أو عائلية مع لبنان وبعبارات مؤذية.

هذه الغالبية الجديدة، لن تكون مع خطاب السيد خدام ولن ترى بعين الرضا أي تحالف أو تقارب بينه وبين المعارضة. وإن كنا ننتقد هذه التلقائية، الخطيرة النتائج على مستقبل العلاقات السورية اللبنانية، فنحن ممن يعتقد بأن إعادة اللحمة الى العلاقات البنيوية والحيوية بين الشعبين السوري واللبناني لن تكون عبر ملف الرئيس الحريري، ولا بد من أسس سليمة جديدة تبادر لها الحركة المدنية والثقافية غير الحكومية في البلدين من أجل مد جسور ثقة على أسس جديدة تقطع مع كل من الردع الأمني "العنجري" والاستعلاء الاستقوائي لبعض القيادات اللبنانية.

لا ينحصر الموقف من خدام في الخلاف بين قائل "من كان منكم بلا خطيئة" وقائل "من كان منكم بلا جريمة"؟ ويمكننا القول بالمعنى الذرائعي المحض، أن أصحاب الحد الأدنى في المعارضة (وضع حد للديكتاتورية) لا يجدون مصلحة لحرق أيديهم بورقة محروقة (خدام) لأنهم يعلمون أن هذه الورقة، التي تطالب برأس السلطة دوليا، تقطع أي جسر للحوار مع الجبهة السياسية الحاكمة، ولا يعتقدون بأن المجتمع الدولي قد قرر اعتبار اغتيال الحريري "11 أيلول إقليمية"، ولا يريدون القطيعة مع جمهور مضطرب يمكن استعادته بالحكمة وبالقيم الكبرى التي أعطت المعارضة الديموقراطية صدقيتها وقوتها، لا بتكتيكات سريعة محدودة الجدوى كثيرة الضرر.

بحسها الغريزي ومنعكسها الشرطي القديم ، تعاملت أجهزة الأمن مع هذا الوضع بوضع الإصبع على ما اعتبرته الخطر الأكبر، فاعتقلت رياض حمود الدرار واحتفظت بعارف دليلة ورموز التغيير الديموقراطي والمدني باعتبارهم أخطر ممن يتهافت من صفوفها، مواصلة سياسة حرمان سوريا من صناعة كوادرها المستقبلية ممن لم يلوثهم الاستبداد والفساد. ولكنها بهذا المسلك، ذكّرت المعارضة الديموقراطية بأنها الخطر الأكبر على الديكتاتورية. من هنا ثقتنا كبيرة بأن المجتمع السوري يملك احتياطه اللازم لخوض تجربة سلمية مدنية أصيلة من داخل صفوفه وبقدراته.

حقوقي سوري مقيم في فرنسا