بير رستم

بداية أود أن أشكر الأخ أنور بيجو وذلك لأسباب عدة: أولاً لجرأته على الاعتراف بالخطأ وهذه من باب الفضيلة والأخلاق الحميدة وثانياً لملاحظته الدقيقة [وما لفت انتباهي جداً جداً ، في الفقرة الثانية من مقال ( الردّ ) للأستاذ بير رستم ، والتي تبدأ بـ (( ما يلفت الانتباه هو محاولة بعض المثقفين والسياسيين العرب و [ المحسوبون ] على التيارات ........ )) .... إلى نهاية الفقرة ، ما لفت انتباهي : هو أن الأستاذ رستم يبدو أنه بعد الاستطراد الطويل ، أضاع الفكرة ، فنسي أن يذكر ( ما يلفت الانتباه ) ، ونسيَ أيضاً أن يذكر ما هي (محاولة بعض المثقفين والسياسيين ...) ولا زلنا لا نعرف ما الذي يحاوله ( هؤلاء )]. فهو محق تماماً في ملاحظته هذه؛ لقد "نسينا" أن نذكر بالفكرة وإذا كانت تهمه فها هي؛ " إن ما يلفت الانتباه في هؤلاء إنهم يتخندقون خلف متاريسهم الأيديولوجية ويحاولون أن يروا العالم من خلال مناظيرهم فقط". أما السبب الثالث الذي دفعنا إلى أن نشكر الأخ أنور ونقوم بالرد عليه، فهو قراءته لمقالنا "عيوب الخشب" وتكفله بالرد الموضوعي والهادئ وأخيراً وليس آخراً لنقوم بتوضيح بعض النقاط والتي يمكن أن تكون موضع لبس وجدال ولن نقول خلاف و"معاداة"، لا على الصعيد الفردي؛ (أنا وهو) ولا على الصعيد العرقي الأثني؛ (عربي كوردي) وإنما هي أفكار تطرح للنقاش.

مقول أو قول (قومي وقومجي) لها دلالات معينة ولسنا هنا بصدد توضيحهما وإنما كان المقصد والغاية منهما أن نوضح للقارئ بأن بعض المثقفين العرب قد غالوا في الفكر القومي وبالتالي انتقلوا من صفوف التيار القومي والتي هي من "حقائق" الأمور والتكوينات والمصطلحات الاجتماعية، إلى "مراتب" أكثر عنصرية؛ أي بمعنى أكثر مغالاة بقوميتهم وعلى حساب بقية التكوينات الاجتماعية الأخرى. هذا ما كان المقصود من مفهوم "القومجية" وليس السب والشتم، كما توهم الأستاذ أنور عندما كتب في رده؛ " أعتقد أن من يؤمن بالمبدأ القومي والسيادة القومية ، يسمى ( قومي ) وليس ( قومجي ) ، ولا أعرف حقيقة ، أنك حين توصف بـ ( قومجي ) ، فهل هذا من باب الاعتراف والقبول بأنني الآخر ، الآخر المحترم ، أم هو عدم قبول واعتراف وعدم احترام للآخر وما يراه هذا الآخر ؟؟ هل هو من باب التحلي بـ ( الأخلاق السمحة ) أم هو تهكم وشتيمة ؟؟ أم هو استخدامُ ( قوميٍّ ) بريءٍ ليس من الخشب فحسب ، بل من الكلس والخشب وغيرها .... ؟؟ !!". لا يا "سيدي" لم يكن القصد هو "عدم احترام للآخر وما يراه هذا الآخر" وإلا فسوف نكون من الموصفون بها وهذا ما لا نريده لأنفسنا ولا ما نتمناه لغيرنا.

وحتى لا يكون مقالنا هذا فقط للمجاملة والرد والرد المعاكس، سنحاول أن نبحث في بعض القضايا والتي نعتبرها جوهر الخلاف؛ (بالمعنى الفكري الجدلي للوصول إلى "حقائق" وحلول نتفق عليها) والتي طرحها الأخ الأستاذ أنور في مقال (رده) والمعنون بـ " على رؤوس الأشهاد ..... أنـــــا سوري قـــومـــي اجتماعيّ"، وبالمناسبة كلنا سوريين ونفتخر بسوريتنا ولكن نريدها وطناً تحقق الحرية والكرامة للجميع وليس مزرعة خاصة أو أن تكون حسب المفهوم "القومجي العروبي" لبعض المغالين من الأخوة العرب، بأن سورية العرب للعرب فقط. نعم.. إننا سنحاول أن نناقش بعض هذه القضايا وبقصد وضع النقاط على الحروف وإبداء وجهة نظر مغايرة، لا تدعي احتكار "الحقيقة" لنفسها، ونبدأها من مفهومي القناعة والحقيقة بالذات.

يكتب الأستاذ أنور في سياق مقاله؛ " إننا ندّعي أننا نملك قناعة ، وهذه القناعة نعتقد بقوة ، وبوضوح تام ، ودون استخدام للّغّة المخاتلة ، أنها تعبّر عن الحقيقة". هنا وباعتقادنا يكمن جوهر الخلاف بيننا؛ بين عقليتين ومنظومتين فكريتين مختلفتين ولن نقول متصارعتين؛ لأننا لسنا من دعاة نفي وقتل الآخر، مهما كان هذا الآخر مختلفاً معنا أو على النقيض تماماً لقناعاتنا وآرائنا. سوف نوضح الفكرة أكثر؛ إن الأخ أنور يرى ويجعل من قناعاته حقائق بالمطلق، " إن ما نراه صواباً ، هو بالنسبة لنا هو مطلق الصواب" هذا ما يقوله في رده علينا. بداية نقول له أننا نحسده على يقينيته هذه، "الشك والبلبلة لا تحددان اتجاهاً ، بل تضيّعان الاتجاهات" هو هكذا يرى الشك بأنها تخلق البلبلة وتتيه البوصلة بحيث يفقد المرء القدرة على تحديد الاتجاه الصحيح والوصول إلى الهدف المنشود، "بل لا يمكن أن يطرح الأسئلة الجوهرية في الحياة".

هو إذاً يرفض مبدأ الشك أو على الأقل يجدها أنها تسبب البلبلة والفوضى، وهذه إحدى ركائز الفكر العقائدي الديني؛ حيث (لا شك مع الإيمان) وإلا فهو خارج على الجماعة وزنديق ومن أصحاب البدع. وإننا في مقال سابق لنا؛ "العقلية الهروبية" والمنشور في نشرة سورية الغد، العدد 21 كانون الثاني 2006 قد تطرقنا لهذه الإشكالية في الفكر الشرقي وتحديداً الفكر الإسلامي العروبي؛ وهذه قريبة إلى القومجي، وها نؤكد هنا مرة أخرى، على أن هذه العقلية تنطلق من امتلاكها، وحدها، الحقيقة كاملة وما الآخر إلا كافراً، ملحداً وعدواً، لا مجال للحوار معهم ولا سبيل أماهم إلا الإيمان والعودة إلى الطريق الصحيح الواحد الأحد أو القتال والموت، دون أن يكون هناك إمكانية التعايش على مبدأي الاختلاف والمساواة، وللحقيقة نقول أن هذه ليست خاصية بالفكر الإسلامي العروبي وحده وإنما هي مبدأ ومنطلق فكري عقائدي لكل المنظومات والأيديولوجيات الفكرية ذات الخاصية الشمولية من ديني مذهبي وعرقي أثني إلى فكري أيديولوجي.

النقطة الثانية والتي نريد أن نطرحها للنقاش هي مفهوم "الحقيقة" وإدراكنا لها ومعرفتنا بها وبمدلولاتها، وسوف نبدأ من تعريف الأخ أنور لها، فهو يكتب في رده علينا، "الحقيقة هي شأن طبيعي منطقي ، سنًته وتسنّه قوانين هذا العالم بأسره ، وقوانين الطبيعة والحياة ، وذلك منذ ما قبل التاريخ الجليّ وحتى اللحظة الراهنة . أعتقد أن الحقيقة ليست اختراعاً بشرياً أو إلهياً ، الحقيقة شأن طبيعي ، فإمّا أن نجتهد فنتعرف على قوانين الطبيعة أكثر ، فنقترب من الحقيقة أكثر ، أو نتجاهل هذه القوانين ، فتصير الحقيقة في وادٍ ونحن في واد". نلاحظ في تعريفه للحقيقة بأن الإنسان كائناً منفعلاً وليس فاعلاً فـ"الحقيقة شأن طبيعي"، إذاً لا شأن لبني البشر في تكوين هذه "الحقائق" وصياغتها، فنحن هنا أمام الوجه الآخر للفكر الغيبي، فإما أن نكون لاهوتيين ونقول كل "الحقائق" نزلت في اللوح المحفوظ أو نكون ماديين فالمادة هي التي تسيرنا، وهذه لا تختلف عن الأخرى، فالاثنان يجعلان منا أدوات و"فئران اختبار". وبالتالي فنحن محكومون بهذه الثنائية التي تجعل منا كائنات إتكالية لا حول ولا قوة لها وكل شيئ مقدر إما من إله أو من المادة.

إننا ومن خلال هذا الرد وحتى لا ندخل مرة أخرى في متاهات اللغة وننسى أن نقول ما نريد، نريد أن نؤكد على بعض القناعات، وها نحن هنا نؤكد للأخ أنور بأن لدينا أيضاً قناعات، ولكن لا نعتبرها "حقائق أبدية" ولا نعترف بالأساس بأن هناك "حقائق أبدية"؛ فما هو "حقيقي" اليوم ويعتبر من "المقدسات"، هذه أيضاً من التوهمات الفكرية للبشر، نعم.. إن ما يعتبر اليوم من "الحقائق" قد تجدها بالأمس أو الغد من المحرمات والممنوعات والتوهمات الفكرية لدى البشر ونستطيع أن نضرب بأكثر من مثال هنا، ولكننا سنكتفي هنا بواحد فقط، ألا وهو مفهوم الوطن والذي هو اليوم مثار أكثر النقاشات ومنه حوارنا هذا. إن ما يعتبر اليوم من "الحقائق" بل "المقدسات" في الفكر البشري المعاصر؛ هو مفهوم الوطن والذي أجمعت عليها كل الأديان والأيديولوجيات والنظريات الراهنة على أنه من "الحقائق" وتعتبر الخيانة الوطنية من أولى وأكبر الخيانات وأعظمها وعقوبتها الإعدام حتى من دون محاكمات. فنحن نسأل هنا؛ هل كان مفهومنا للوطن منذ الأزل هكذا وهل سيبقى كذلك إلى أبد الآبدين، بل هل كان للإنسان البدائي من أوطان بالأساس حتى تكون من "الحقائق" ناهيك على أنه مقدس أو غير ذلك، إذاً فـ"الحقائق" هي الأخرى غير ثابتة ومدلولها يتغير مع سيرورة الزمن وتقدم الفكر البشري، بما معناه؛ فـ"الحقائق" هي الأخرى غير "حقيقية"، وذلك إن جاز التعبير.

المسألة الأخرى والتي نود أن نطرحها للنقاش هو مفهومي اليقين والشك، حيث يربط الأخ أنور بين مفاهيم الشك والبلبلة والضياع ويضعها في نسق فكري واحد؛ بما معناه أن الشك لا توصلك إلى نتيجة، ليس هذا فقط وإنما هي تشتت أفكارنا وتجعلنا نضيع بينها ويعتبر أن من يمتلك قناعة وهي "بالمطلق حقائق يقينية"، هو الذي يستطيع أن "يطرح الأسئلة الجوهرية في الحياة" أما الآخر، صاحب الشكوك، فهو ضائع ولن يصل إلى الهدف وإن طرح مجموعة أسئلة وقضايا فليس إلا لكي يـ"ستفزّ ( ز ) بها الآخر" لا أكثر. وهكذا نجد إنه ينطلق مرة أخرى من قناعاته والتي يعتبرها حقائق بالمطلق، وبالتالي ما عليك إلا أن تقبلها أو ترفضها دفعة واحدة دون أن يترك لك خياراً ثالثاً، ولكن ومع ذلك نحاول من جديد أن نعود إلى منطق ومناطقية النقاش والرأي والرأي الآخر، دون أن نصادر آراء أحد أو نطلق الأحكام عليهم أو نجعل التوافق معنا شرطاً للمشاركة والمواطنة، "قناعتي الأكيدة ، هي البحث عمّا يجمع ، ونبذ كل ما يفرق ويستفزّ". لكن نستطيع أن نقول، وبما أنه من أصحاب الفكر الحقائقي، بأن من "الحقائق" الأولية في الفكر المعاصر؛ أن الشك هو الذي يدفعنا باتجاه البحث عن قضايا إشكالية وليس الفكر اليقيني المطمئن إلى "حقائق" الكون، وذلك بشقيه المادي واللاهوتي؛ حيث هو فكر مستقر راكد بعكس الفكر الشكي القلق والذي يبحث عن إجابات جديدة غير راكدة في بطون كتب صفراوية "مقدسة".

وأخيراً لا بد من كلمة نهمس بها للأخ أنور؛ إننا لم نقصد بقولنا: أهذه من "الأخلاق السمحة" بأن نمس بكرامتكم أو شخصكم، لا أبداً، فهذه ليست من أخلاقنا وإن كنتم لامستم شيئاً من هذا القبيل فإننا نعتذر للمرة الثانية. أما مسألة الوطن والمواطنة السورية وذلك عندما كتبنا في ردنا على مقال للأخ فيصل قاسم بأننا نجد ".. بما معناه سوريا هو وطن السوريين مهما كانت قبائلهم، قومياتهم، دينهم ومذهبهم وتلونهم السياسي ومن حق الجميع أن يمارس كل خصوصياته". فليس بمعنى أن نفتت سوريا إلى دويلات كما ألتبس عليك الأمر وإنما كان القصد منها أن نؤكد على هذا التنوع الفسيفسائي للمجتمع السوري دون أن نصهرهم في هوية أو خصوصية ذات لون وطعم ورائحة واحدة؛ "أريد خصوصية تجمعني بك"، وذلك كأن تجمع كل "نجوم السماء في قمر واحد ليأخذ نصف مساحة السماء" كما يقول رسول حمزتوف في رائعته "داغستان بلدي"، فهذه "الخصوصية هو إلغاء للآخر والإلغاء هو إلغاء إن كان حباً وهياماً أو بغضاً وكراهية، ولأننا لا نخاف من التنوع والاختلاف فنحن نؤكد مرة أخرى على سورية المتعددة الهويات. وآخراً نرجو أن نكون وفقنا في إيضاح بعض النقاط المبهمة ونكون بالتالي ألقينا الضوء على جوانب مظلمة لبعض المفاهيم الإشكالية عندنا، على الأقل.