- مأزق الإدارة الأمريكية الذي يلوح في أفق المنطقة لم يعد مقتصرا على الجانب العسكري فحسب بفعل الضربات الاستنزافية الموجهة للقوات الأمريكية في كل من العراق وأفغانستان من قبل المقاومة الرافضة للاحتلال، بل تعداه إلى فشل سياساتها الخارجية المعتمدة تجاه عدد من دول المنطقة فهي وإن بدا أنها تمارس ضغوطا متلاحقة على إيران وسوريا مستخدمة كل الأوراق المتاحة بيدها دبلوماسيا من خلال المنظمات الدولية والأممية، أو ملوحة بالخيارات العسكرية وتغيير أنظمة الحكم القائمة على خلفية الملف النووي بالنسبة للأولى، وموضوع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري والعلاقة بلبنان بالنسبة للأخرى فإن الحقيقة التي يمكن استخلاصها بالاستقراء الدقيق للوقائع على الأرض تشير إلى العكس من ذلك، وتؤكد على إخفاقات متعددة لهذه القوة العظمى التي تقدم نفسها كأمبراطورية أحادية القطب على المستوى الكوني.

- وللتدليل على ذلك فإن الولايات المتحدة اضطرت في تعاملها مع الملف السوري إلى التراجع عدة مرات بعد حملات تصعيد ضد دمشق سواء تعلق الأمر بمكان استجواب المتهمين السوريين والإصرار في البداية على ان يكون لبنان، أو بالشخصيات التي سربت ضرورة التحقيق معهم (أقارب الرئيس بشار الأسد والمقربون منه)، أو باستجواب الرئيس الأسد نفسه ووزير خارجيته فاروق الشرع بعد أن برز انشقاق نائب الرئيس السوري الأسبق عبد الحليم خدام والأحاديث المتعددة التي أدلى بها لوسائل الإعلام.

-وإذا كانت الولايات المتحدة قد استطاعت من خلال قرار الأمم المتحدة 1559 إجبار السلطات السورية على سحب وحداتها العسكرية من لبنان، فإنها لم تستطع أن تنهي الحضور السوري في لبنان إذ أثبتت الأحداث قوة حلفائها على الساحة اللبنانية حتى وإن لم يكونوا الأغلبية البرلمانية حاليا لا سيما حزب الله الذي يعد رقما صعبا لا يمكن تجاوزه من قبل خصومه، وقد أثبتت القوى الحليفة لسوريا أنها جدار ممانعة قوي وعصي على تمرير قرارات حكومية لبنانية ضد دمشق مثل إحالة ملف الحريري إلى محكمة دولية حتى وإن استدعى ذلك تعليق عضويتها في الحكومة الحالية، والقيام بالتعبئة الشعبية الرافضة للدور الأمريكي والأجنبي في لبنان من خلال المسيرات الحاشدة لأنصارها وغيرها من وسائل الرفض السلمية.

- وفي ذات الاتجاه فإن الضغوط على سوريا بحسب تأكيدات بعض المراقبين بات من المؤكد أنها لا تستهدف إزالة نظام الحكم - كما تم في الحالة العراقية عام 2003 - وإنما هي في حقيقة الأمر ترمي إلى نقل العلاقات الأمريكية - السورية من حالة (المجابهة) إلى (التعاون)، خصوصا في ضوء الحديث عن رغبة أمريكية بإحلال قوة ردع عربية في العراق لضبط الأوضاع الأمنية المتفاقمة فيه، تكون بديلا للقوات الأمريكية التي باتت تفكر جديا بالانسحاب خلال العام الحالي أو القادم بسبب الضغوط المتزايدة على الرئيس (بوش) وإدارته من قبل الكونجرس والرأي العام الأمريكي في الآونة الأخيرة، وهذه النقطة بحثت مؤخرا أثناء زيارة نائب الرئيس الأمريكي (ديك تشيني) إلى مصر والعربية السعودية.. وبغض النظر عن قبول أو رفض سوريا لهذا المطلب فإن المخطط الأمريكي يريد - على ما يبدو - أن تتولى دمشق مسؤولية هذه القوة أو تكون المحور الرئيس فيها كما كان الحال في لبنان بعد نشوب الحرب الأهلية في لبنان في السبعينيات من القرن الماضي بحكم خبرتها وجوارها للعراق فضلا عن توقعات بمطالب أمريكية أخرى تندرج في إطار صفقة أو صفقات وتكون مرتبطة بأمرين، الأول: إنهاء الضغوط على دمشق وصرف النظر عن إنزال أية عقوبات محتملة ضدها والآخر: استمرار بقاء النظام وكسبه كحليف للولايات المتحدة في المنطقة (الموالاة بدلا عن العداوة).

- أما عند الحديث عن إيران فواضح أن هناك شللا أمريكيا واضحا بخصوص التعامل مع مفاعلاتها النووية، يؤكده قرار طهران برفع الأختام عن ثلاثة مراكز للأبحاث النووية بعد توقف لمدة عامين، ولعل هذا الأمر يرتبط بفشل واشنطن في حمل الدول الكبرى على إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن وانتزاع قرار دولي ضدها، بل إن الفشل يبدو مضاعفا حينما تؤكد هذه الدول على ضرورة استبعاد خيار القوة ضد طهران الذي طالما لوحت به واشنطن وحليفتها تل أبيب - بغض النظر عن جديته أو استخدامه كورقة ضغط فقط - واعتماد مبدأ المفاوضات لمعالجة الملف.

- وعلى نحو متصل بهذا الأمر فإن الولايات المتحدة تبدو عاجزة عن كبح جماح نفوذ إيران المتعاظم في العراق بعد الغزو الأمريكي لبلاد الرافدين، وكما هو معروف فإن الشيعة الموالين لإيران والمرتبطين بالمرجع السيستاني هم أكبر الفائزين بالانتخابات الأخيرة وهم الأكثر حظا لاقتطاع النسبة الكبرى من كعكة الحكم في بلادهم خلال الفترة الحالية والمستقبلية المنظورة.

- وإذا كانت الضغوط الأمريكية على دمشق ركزت أيضا على أهمية التزام سوريا بأمور أخرى لعل أهمها:

_ - إيقاف الدعم عن المقاومة العراقية وفصائل المقاومة الفلسطينية وإغلاق مكاتب الأخيرة في العاصمة السورية.

- سحب الغطاء السياسي السوري عن حزب الله.

- إنهاء التحالف الاستراتيجي مع إيران.

فإن التطورات الراهنة تكشف أن تلك الضغوط قد لا تكون ذات جدوى وفاعلية في ضوء استمرار العلاقة التاريخية المتميزة التي تربط النظامين السوري والإيراني وتفعيل التحالف والتنسيق بين بلديهما على مستوى القمة مؤخرا (الزيارات المتبادلة على مستوى الرئيسين الأسد ونجاد)، بل على العكس من ذلك فقد تقلب السحر على الساحر وتقوي من قدرات البلدين التفاوضية، ودورهما الإقليميين في المنطقة كلاعبين رئيسين على حساب الولايات المتحدة.

- وعلى ضوء ذلك يفترض أن تستمر مؤازرة الدولتين الحليفتين لكل من حزب الله والمقاومة الفلسطينية (خصوصا حماس وحركة الجهاد الإسلامي)، وأن يتم وضع الترتيبات المطلوبة لدورهما الحالي والمستقبلي في العراق، والتنسيق الثنائي على هذا الصعيد سواء تم ذلك بالتفاهم مع واشنطن (ملء الفراغ بعد انسحاب القوات الأمريكية ) أو بدونها، ومثلما أن لطهران علاقاتها المتميزة مع شيعة العراق فإن للنظام السوري مستوى قريبا من تلك العلاقات مع العرب السنة، وبالتالي فإن كلاً منهما يكمل دور الآخر ويعضده.

- باختصار فإن أخطاء الإدارة الأمريكية التي يسيطر عليها اليمين المحافظ في عهد الرئيس (بوش) الابن (خصوصا بعد أحداث سبتمبر 2001 وغزو افغانستان ثم العراق) سرعت في اسقاط هيبتها كقوة أحادية القطبية تريد ترتيب أوراقها في المنطقة منفردة، وجعلتها مجبرة على التعامل مع ألد خصومها والقبول بإبرام صفقات معلنة أوغير معلنة معهم لتأمين مصالحها والتفاهم على نطاق نفوذها وهوامش التحرك حوله والتقليل من حجم خسارتها في هذا الجانب، وبالتالي فإن الضغوطات التي تمارس على إيران وسوريا من الجانب الأمريكي ينبغي أن تقرأ في هذا السياق.. ويبدو أن فحوى هذه الرسالة صارت مفهومة لطهران ودمشق اللتين تريدان بدورهما استثمار حاجة واشنطن إليهما في ورطتها الراهنة للخروج بأفضل المكاسب وتعزيز دوريهما الإقليمي، ولعل الشهور القادمة كفيلة بتوضيح معالم هذه الصورة على نحو أفضل.