يتساءل ديبلوماسيون عرب واجانب في احاديثهم مع مسؤولين وسياسيين عما اذا كان اللبنانيون لا يستطيعون ان يديروا شؤونهم بأنفسهم ويستمرون في حاجة الى وصاية دائمة سواء كانت عربية او اجنبية او دولية باعتبار ان ما يرونه بعدما تحقق انسحاب القوات السورية من لبنان يدل على ذلك، فلا الاكثرية النيابية التي انبثقت من الانتخابات النيابية استطاعت ان تحكم، ولا الاكثرية الوزارية التي تتألف منها الحكومة استطاعت ان تحكم ايضا لأن الاقلية المسيَّرة تمكنت من التحكم بقراراتها، وكانت مقاطعة وزراء "التحالف الشيعي" كافية لشل اعمالها.

واجاب مسؤولون وسياسيون لبنانيون على هذا التساؤل بالقول ان اللبنانيين قادرون على ان يديروا شؤونهم لو تركوا لأنفسهم، وقد فعلوا ذلك منذ ان حصلوا على الاستقلال عام 1943 واستمروا في هذا الوضع حتى السبعينات وان كان قد تخلل هذه الحقبة وجود نفوذ سياسي مباشر او غبر مباشر لدول عربية حينا واجنبية حينا اخر. فبعدما انحسر النفوذ الفرنسي في الاربعينات، حل محله النفوذ البريطاني الذي انحسر بدوره عام 1958 ليحل محله النفوذ الاميركي، الى ان وقع لبنان تحت الوصاية الفلسطينية المباشرة مع دخول اول دفعة من المسلحين الفلسطينيين منطقة العرقوب، وادى انقسام اللبنانيين حول الوجود الفلسطيني المسلح الى قيام هذه الوصاية التي انتهت بعد حرب لبنانية – فلسطينية وحرب داخلية ادت الى دخول القوات السورية الى لبنان بموافقة اقليمية ودولية لانهاء هذه الحروب، فكان ثمن ذلك خضوع لبنان لوصاية سورية استمرت ثلاثين عاما.

وبعد انسحاب القوات السورية بات لبنان تحت الرعاية الدولية وليس تحت الوصاية مع صدور القرار 1559 وغيره من القرارات التي تحصن سيادة لبنان واستقلاله وتساعده على اقامة دولة قوية وقادرة فيه. لكن سوريا التي لم تكن تحسب حسابا لخروج قواتها من لبنان تحت الضغط الداخلي والدولي، ولم تصدق حتى الان حصول ذلك، وان عليها ان تتعاطى مع لبنان كدولة سيدة حرة مستقلة من الان وصاعدا، ظلت بواسطة من تبقى لها من حلفاء في السلطة وخارج السلطة تتدخل وتخلق العراقيل للحكومة الائتلافية، التي لها فيها من يساعدها على ذلك. فلو ان ثمة من لا يتدخل في شؤون لبنان الداخلية وترك اللبنانيون وشأنهم لما كانوا ينقسمون على انفسهم وتستقوي فئة منهم بدولة وفئة بدولة اخرى من اجل مكاسب ومصالح فئوية وشخصية ولو على حساب مصالح لبنان.

ويضيف هؤلاء ان المشاعر الطائفية وتقديم الولاء لدولة على الولاء للوطن، هما اللذان يغذيان الانقسامات الداخلية ويفتحان ابواب التدخل الخارجي. ولكن رغم ذلك، فان ترك اللبنانيين وشأنهم وعدم التدخل في شؤونهم يجعلهم قادرين على ان يحكموا انفسهم بأنفسهم واذا هم اختلفوا، فان خلافهم يبقى محدودا ولا يبلغ حد الاقتتال الطائفي، بل يقتصر على الانقسام السياسي وهو شيء طبيعي في الدول الديموقراطية.

ويقول النائب السابق فارس بويز في هذا الصدد انه يخشى ان يكون لبنان يواجه حاليا المرحلة التي واجهها عام 1975. فلأول مرة في تاريخ لبنان يقوم"تحالف شيعي" يجعل انسحابه من الحكومة ليس انسحابا لحزب او احزاب، انما لطائفة كبرى شريكة في الحكم مع الطوائف الاخرى، الامر الذي يجعل هذا الانسحاب خطيرا كونه يخل بالميثاق الوطني وبالعيش المشترك ويصدع الوحدة الوطنية، ففي الماضي كانت التعددية داخل كل مذهب وكانت التعددية الحزبية تشكل اطارا للخلافات السياسية بحيث كان يستبدل الزعيم الشيعي بزعيم آخر والزعيم الدرزي بزعيم آخر وكذلك الزعيم الماروني والسني والارثوذكسي والكاثوليكي، اما اليوم ومع قيام "تحالف شيعي" يحتكر تمثيل الطائفة، بات من الصعب تشكيل حكومة بدون رضى وقبول هذا التحالف. فاذا حذت مذاهب اخرى حذو هذا التحالف، فان لبنان يدخل حتما في نظام "فيديرالية الطوائف" الامر الذي يحتم وضع قانون جديد للانتخابات يحول دون قيام هذا النظام بحيث يؤمن صحة التمثيل مع التعددية داخل كل مذهب فلا يظل حكرا على حزب او تكتل ريثما يتم التوصل الى اتفاق على تجاوز الطائفية وقيام الدولة المدنية والعلمانية التي تجعل الصراعات بين احزاب وطنية وليس بين طوائف.

وفي انتظار ذلك يرى نواب في تحالف الاكثرية ضرورة التعجيل في اجراء انتخابات رئاسية مبكرة توصلا الى اقامة سلطة واحدة ودولة قوية واحدة لا دولة ضمنها ولا سلاح خارج شرعيتها، وعندها لا يعود في امكان اي خارج استغلال الانقسام الداخلي للتدخل لتغليب فئة على فئة.

اما اذا استمر الوضع الراهن المحكوم بسلطتين، فسيكون من الصعب اقامة الدولة القوية القادرة، التي لا سلاح خارج شرعيتها، كما انه من الصعب اتخاذ القرارات المهمة واجراء الاصلاحات المطلوبة التي تمهد لعقد مؤتمر ناجح في بيروت للدول المانحة، وستظل سوريا في وضع القادر على التدخل في شؤون لبنان الداخلية مستفيدة من الانقسام الحاصل. داخل الحكم وداخل الحكومةـ ولإثبات ان اللبنانيين غير قادرين على ان يديروا شؤونهم بأنفسهم وانهم في حاجة الى وصايةـ، يعمل من تبقى من حلفاء لها في لبنان على عودتها لأن لهم مصلحة في هذه العودة ويقولون لو ان الوصاية السورية كانت لا تزال موجودة، لما قام "تحالف شيعي"ولما كانت جماعة احمد جبريل حركت سلاحها في الناعمة وفي غير الناعمة وتهجم بعض القادة الفلسطينيين على زعماء لبنانيين، ولما كان "حزب الله" يجعل من سلاحه مشكلة ومن تنفيذ ما تبقى من القرار 1559 سببا لخلق مواجهة بين لبنان والمجتمع الدولي.

لذلك، فان سوريا ما دامت تتدخل في شؤون لبنان الداخلية وتخلق المتاعب لحكومة تعتبر ان الاكثرية فيها معادية لها ولا تطمئن اليها، فانها ستظل تعمل بواسطة من تبقى من حلفائها في لبنان على العودة بنفوذها السياسي اليه.