خلاصة مجمل الردود الصادرة عن أهل النظام في سوريا على موقف السيد عبد الحليم خدام – ومن ضمنها لب ما جرى التفوه به في مجلس الشعب السوري، إذا ما نحينا جانبا التنافس على المزايدة بواسطة الشتائم – هو أنه من كان "معنا" حق له إرتكاب كل الموبقات التي يمكن تخيلها، فإن خرج "علينا" فضحناه.

أي أن حقل ممارسة الجرائم موقوف على أهل النظام!

وأما الخيانة العظمى التي ألمح إليها كتهمة محتملة فبدت تهويلا إبن ساعته ليس إلا، ولم تفعل غير زيادة الموقف بشاعة، حيث أبرزت الإختلاط القائم بين النظام ورأس النظام والدولة والوطن، بحيث لا يبقى أي متسع لآلية أخرى سوى الإستنساب والإعتباط،، وهما خاصيتان من خاصيات نظام الإستبداد، هذا النظام الذي ينتمي إليه السيد خدام وأعدائه المستجدين، سواء بسواء.

فإن وجبت محاكمة، فربما تدرس إمكانية تقدم جمعية بيئية ما أو مواطنين متضررين بدعوى أمام المحاكم بخصوص دفن النفايات السامة والمشعة مقابل اموال رشى كبيرة. وهذه كانت سرا شائعا فاصبحت معلومة رسمية مطروحة في البرلمان. اللجوء إلى القضاء ليس من أجل محاسبة المرتكبين فحسب وإنما لإستخراج تلك المواد ووقف الضرر. بل ربما أمكن ملاحقة السيد خدام في فرنسا حيث يقيم، بموجب تلك الدعوى.

وكذلك ملاحقته بتهمة السكوت المتمادي عن معلومات مهمة لتحقيق قضائي جار، أي بخصوص جريمة إغتيال رفيق الحريري.

وأما الإسترسال في نبش الدوافع التي حملت السيد خدام على الخروج عن صمته اليوم، وتحليلها على ضوء المعطيات السياسية المتوفرة والتي تخص مصالح هذه القوى الإقليمية أو تلك التي يرتبط بها السيد خدام ( سر آخر شائع )، بما يتجاوز سوريا أحيانا ليطال ترتيبات كانت مأمولة في العراق مثلا ولم تجر وفق "الإتفاق"، إلى آخر أدب الكواليس السياسية، فليس من ورائه طائل. فهذه الصراعات تجري في دوائر مغلقة لا يطالها إلا أربابها ولا تأثيرلحركة الناس ،ولا لقناعاتهم، عليها.

وكذلك تظهر حدود الحركة الدبلوماسية التي يلجأ إليها أهل النظام في سوريا، موسطين رؤساء وملوك، فيما بينهم، ومع الإدارة الأمريكية. قد لا يكون من بد لكل ذلك، إلا أنه وحيدا لا يفعل سوى تعميق أزمة النظام وجعلها أكثر إنكشافا، ومضاعفة قدرة العوامل الخارجية على التدخل أو، وبالاصح، على التلاعب بها.

وقد تكون الدعوة لسوى ذلك وهما خالصا. فالنظام السوري لا يملك إلا التحرك ضمن دائرة "دوزنة" تلك العناصر، مرتكبا تارة الحماقة تلو الأخرى، و مقدما تارة أخرى تنازلات هنا وهناك أو عارضا التفاوض عليها في بازار لا نهاية له. وهو في ذلك يعيد سيرة نظرائه، وأقربهم مثالا ذاك الذي حكم العراق لنيف وثلاثة عقود، كانت كوارث متلاحقة، وإنتهت بكارثة كبرى هي فتح الباب على مصراعيه أمام عودة الإستعمار إلى العراق، حربا وغزوا وإحتلالا. أتيح لنظام صدام حسين سنوات طوال، أثناء الحصار الذي فرض عليه، كي يعي الوجهة التي تسير نحوها الامور، إلا أنه أبى إلا أن يمعن في ما ألفه، في ما يشكل بنيته ولا يقوى على سواه.

طرحت عليه فكرة المبادرة الى المصالحة الوطنية ففهمها إنضمام المعارضة إليه ! وظن الدعوة إلى إصلاحات جذرية تلغي حكم الحزب الواحد وترتضي الديموقراطية وسيلة لإستنهاض وطني بوجه العدوان الامريكي الوشيك، ظنها هي المؤامرة الكبرى.

ويقال أن صدام حسين دهش بصدق مرتين في حياته : يوم إستضعفه الناس فإنتفضوا في وجه نظامه عقب دحره عن الكويت، وكان يظن أنه معبودهم، ويوم لم يتصدوا لتوغل القوات الامريكية في العراق، وإن لم يرحبوا بها كما أمل هؤلاء الاخيرين، وكان يظن أنه والبلاد شيء واحد. وما زال صدام حسين لم يع ما حدث ولن، وما زال لم يسائل نفسه عن مسؤليته، ولا سآءل الحزب الذي حكم صدام بإسمه نفسه عن مسؤليته، وما زال يوزع صكوك الوطنية على أساس أنه مرجعها. أما سير الفساد فبلا حدود، لا تعفي أحدا منها، وقد أضعف تحالف القمع والفساد بنية الدولة العراقية ،وهي عريقة وفي تصرفها إمكانات هائلة، تحولت إلى مزرعة لأهل النظام، يغرفون منها بقدر قربهم من رأسه. وقد اخرجت هذه البنية المجتمع من دائرة السياسة وأفقرته وسعت إلى تسطيحه، وعطلت بكل الاحوال قدرته على أي فعل أو مبادرة. فهل كان قول كل ذلك ينفي وجود خطة أمريكية للانقضاض على العراق؟ إنه ،على العكس، يؤكد وجودها بل يدرك مبلغ خطرها، ويبحث عن الوسائل الناجعة للتصدي لها.

يغضب أهل النظام في سوريا حين تقرأ الاحداث الجارية اليوم على ضوء التجربة العراقية، القريبة العهد والجغرافيا. ويغضب المعارضون للنظام السوري، أو بعضهم، وبالاخص منهم اللبنانيون، حين تعقد المقارنات مع السياق العراقي. وهكذا، ومن الجهتين، يصبح الصراع القائم كأنه أعمى : بلا ذاكرة، يحكمه التجزيء والراهنية.

ولعلها غير سهلة ،ولا بديهية، تلك الوضعية المعادية من جهة للإستراتيجيا التي تقودها الولايات المتحدة الامريكية الساعية لإحكام السيطرة على العالم بواسطة الحرب، والمناهضة من جهة ثانية، وفي الوقت نفسه، لأنظمة الإستبداد: لإنه إستبداد، أي مبدئيا وبوصفه منتجا للبؤس الإجتماعي في مختلف الميادين، وأيضا بسبب إعاقة الإستبداد التامة لإحتمالات التصدي الناجح لتلك الهجمة الإستعمارية الجديدة. إلا ان ذلك هو الموقف الوحيد الذي يؤسس لمخرج من الخراب العام القائم.

وأما السيد خدام، وآخرين مثله سيظهرون تباعا، ويبدو أن ظهورهم هو، وليس شيىء آخر، هاجس أرباب النظام الأكبر، فرغم الضجيج الإعلامي الذي يحيط بهم، ليسوا سوى...أدوات. لب الموضوع في مكان آخر، في عقم الأساليب المتبعة لتجاوزالأزمة. فالمطلوب ليس أقل من ورشة هائلة تبدأ برفع العمل بنظام الأحكام العرفية وبإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين وتقوم سريعا بالدعوة إلى مؤتمر وطني لإنقاذ سوريا بمشاركة المعارضة – كلها وليس مسبق الصنع منها أي ما يفبركه النظام على أنه معارضة أو ما يرضى عنه- وتنشء هيئة تتولى السلطة وتنظم عملية الإنتقال السلمي الى نظام حكم آخر !

رب قائل أنه لو كان ذلك ممكنا لما وصلنا أصلا إلى ما وصلنا إليه اليوم من مأزق محكم، وأن انظمة الحكم لا تنشأ عن تخطيطات ذهنية لما هو أفضل، ولا حتى بناء على القناعات. إلا أن تبني هذه الوجهة يرسم إطارا وطنيا للصراع الراهن في سوريا، أو أنه يضع آلية هذا الصراع ضمن إطاروطني، متميز تماما وجوهريا عن الإستهدافات الإستعمارية والقوى المحلية المستعدة لخدمتها والإلتحاق بها.

وبغير ذلك يبقى الموقف رخوا فيتجرأ ركن من أركان النظام على ممارسة لعبة فقدان الذاكرة أمام الملأ، مستعيدا منها ما يناسبه...جزئيا وراهنا.