نضال حمد – اوسلو

نهض من النوم أبكر من ميعاده بكثير و على غير عادته رغم أنه من المعروف عنه ميله للنهوض باكرا.. لكنه اليوم استيقظ كأنه المسحراتي في شهر الصوم والإحسان،شهر رمضان. فتح عيناه قبل أن تصحو العصافير التي تغرد في الحديقة البيضاء، تلك التي تكون عادة خضراء في الربيع والصيف،ثم صفراء وحمراء في الخريف، لتصبح فيما بعد بيضاء في فصل الشتاء.

تحتوي حديقته على بيت خشبي صغير تلجأ إليه العصافير تجنبا للبرد والأمطار والأعداء.. العصافير عادة تستيقظ قبل البشر ، تصحو من نومها فتبدأ النهار بأناشيدها الخاصة. كما أنها من الطيور المحببة لدى بني آدم، أما الآن وبعدما علم البشر ما تجهله الطيور من خطورة أنفلونزا الطيور على حياتها و حياة البشر، فقد أصبح الآدميون يتجنبون العصافير وبقية الطيور.

نهض زيدون بدون تراخي، توجه لتفقد شباك حريته، راقب فوضى الثلوج المتساقطة خارج مملكته المكونة من غرفة نوم بسرير عريض..فزيدون قضى العمر حالماً،وحلم طوال وقته بسريرٍ كبير ،لأنه قضى العمر ينام في منزل العائلة على فرشةٍ عاديةٍ، فرشة من الإسفنج،.. حيث عاش وإخوته السبعة في غرفة واحدة تحتم عليهم أن يسكنوها وكان لا بد لهم من تقاسمها. مر بظروف صعبة تركت في نفسه أثراً يلحظه المرء مع تكرار زيدون دوما لقوله انه وإخوته كانوا كما السردين في المعلبات المستوردة من المغرب والصين.

يتذكر زيدون الدلفة التي كانت تتسرب منها أمطار الشتاء ، حيث تتساقط حبات المطر حسب شدة الرياح وصلابة ألواح الزينكو .. تتساقط على حافة وسادته..بداية الأمر أبدى انزعاجه منها لأنها حرمته من الراحة والسكون ولم يستطع بسببها النوم. لكنه مع مرور الزمن أصبح يعتبرها موسيقاه المفضلة،فأخذ يستمع للدلفة كمن يستمع لسيمفونيات تشايكوفسكي ، شوبان، موزارت ، بتهوفن أو لروائع موسيقى سيد درويش والموشحات الحلبية بأداء صباح فخري..كان كمن ينام سابحا مع الألحان الموسيقية الغجرية، موسيقى غجر فرنسا وأسبانيا والمجر.

جرت العادة أن يبدأ صباحه اليومي بنظرة على الشجرة الباسقة التي تسد عنه رؤية الخليج بكامل صورته، تقف الشجرة في المكان غير المناسب.. فكر طويلا بحلٍ لتلك الشجرة ولكنه لم يصل لأي حل. ذات يوم عرض عليه أحد الأصدقاء أن يقوم بدق مسامير بطول عشرين سنتم في جذع الشجرة، وبتلك الطريقة تموت ويرتاح منها،ثم يصبح الخليج مبسوطا أمام ناظريه كأنه مرآة صافية في كف يده. بداية راقت له الفكرة ، لكنه بعد التفكير بها جيدا وجدها بلا معنى وتافهة، فعدل عنها.. فقد اقتنع أنه في بقائها حية تتجسد معاني الشموخ،خاصة أنه نفسه تعلم ان الأشجار تموت واقفة،ومادام الأمر كذلك فلماذا يحرمها من الموت بشكل طبيعي. فضل زيدون ان يبقي على الشجرة التي تزعجه على أن يكون السبب في موتها.

وقف أمام المرآة...سأل نفسه :

 هل أنت سعيد بعيشتك هنا؟

 أجاب نفسه.. لا ! لست سعيدا بحياتي هذه.. أريد أن أكون إنسانا آخر، مختلف عمن يدورون حولي، مختلف عن الذين التقي بهم كل يوم وأقول لهم كل مساء تصبحون على أمل. فقد مللت من الحياة بعيدا عن الأهل و على أمل العودة إلى المنزل الأول..

 لكن إلى أين تذهب وكيف ؟

لست ادري ، سأركب أي زورق مبحر في الاتجاه المعاكس،سأمتطي فرس البحر ،سأستسلم للتيار الجارف، ليحملني التيار إلى بحار غير بحارنا،والى أماكن غير التي مللتها وقد تكون ملتني هي أيضا. كل يوم من عمري هنا بمثابة قرن من الزمن،بمثابة دهر اخسره،افقده، اتركه يمضي دون أن أضيف حجرا واحدا في حصن أحلامي،ودون أن أضفي بصمة جديدة على كتاب حياتي،ودون ان أخطو خطوة إلى الأمام تحقق جزء من رغباتي.. أشعر بأنني نصف ميت ونصفي الآخر مشروع لنصف ميت آخر، لموت معلن، لمائة عام جديدة من العزلة، لحياة لمن ولد وعاش كي يروي. أريد حلاً لأحلامي التي تؤرقني.. أحلامي ليست كوابيس لكنها تحرمني النوم، تجعلني كمن يتمدد في كيس، فينتظر وينتظر لكن دون جدوى..النوم في الليل أصبح أيضا حلم من أحلامي،حيث أنني لا أنام سوى سويعات قليلة متقطعة ومتوترة.. أكاد أجن من عيناي حين تستسلمان بسهولة عجيبة لليقظة.. يطير النعس منهما في لحظات .. كان يتسلى بقوله الذي صار عادة ، طار النعس ، حط النعس ولم ينم نعسان بن يقظان ..
 
الليالي الصعبة والطويلة تذكره بمرحلة الدراسة الجامعية في بلاد الإفرنج .فهناك كان تعرف على فتاة أحبها وأحبته،راقت له وراق لها،كانا معا يشكلان مثالا لوحدة الأمم ، عرفا كيف يعززان التضامن بين الشعوب،ويسبحان بالحب على الدروب،بعيدا عن المجاعة والويلات والحروب..سبحا بحمد آلهة الحب والدفء..في فترة الدراسة تقاسما سريرا طلابيا صغير الحجم، شهد السرير كافة تقلباته كانسان تربى في عالم آخر،عالم يختلف بكل ما فيه عن كل ما في عالمه الجديد.. السرير الجديد كان جديدا مثل عالمه ولم يكن أكثر من وسيلة راحة في وقت تغيرت فيه حتى طبيعة الأحلام.ورغم صعوبة تلك الفترة نفسيا وماديا إلا أنه كان ينام بدون أرق.فما أن يضع رأسه على الوسادة حتى يغفو فورا.. أما الآن فهو يقضي لياليه بين نائم وصاحٍ.

تذكر عندما استيقظ من وقفته الطويلة أمام المرآة أن السيدة أم غيم مقدمة برنامج الطقس في التلفزة المحلية قالت أن الجو سيكون باردا.. تطلع من نافذته فوجد الجو كما بشرت به أم غيم الشقراء ، النحيفة والطويلة كبيت ليف في حاكورة جده... درجة الحرارة هبطت دون الصفر ، ترافق هبوطها مع تساقط للثلوج .. ثلوج بيضاء ، بيضاء .. في طريق هبوطها تطايرت ذات اليمين وذات الشمال،توزعت على كل الجهات،ارتطمت بزجاج النافذة حيث كان يضع أنفه .. راقب كل شيء بحذر ، حاول تعقب الثلوج وعدها.. لم يأبه لتوبيخ قرينه له،الذي رآه أمامه في زجاج النافذة، بعدما كانا يتحدثان قبل هنيهة في المرآة... أخبره القرين بأن عد الثلوج يعد ضربا من الخيال،فعد الثلوج المتطايرة مع الريح كعد النجوم في السماء. لم يأبه لكلام قرينه.. وتابع العد واحد عشرة مائة و ... و ... وبعد أن تعب من العد،تراجع عن زجاج النافذة ثم ألقى نظرة تفحص استطلاعية على الغرفة،فوجدها مثلما تركها ليلة الأمس. في الوقت نفسه كانت الحديقة تغطت تماما بالثلوج، لبست ثوب الزفاف الأبيض.. صارت عروسة بثوب الزفاف،لم يرها قبل اليوم بيضاء مثلما هي الآن. أذهله اكتساح الثلوج ببياضها الساطع لكل شيء خارج المنزل. حتى أن الخليج بدا من بعيد ابيضا مثل الحليب.

هبط من الطابق العلوي إلى الأرضي حيث المطبخ ومكتبه الصغير .جهز لنفسه فنجان قهوة غير عربي،قهوة اكسبريس،بدون حليب، فمنذ ان فاجأته آلام معدته مؤخرا توقف عن شرب القهوة بالحليب.كان أيضا قبل أكثر من 15 عاما توقف عن شرب القهوة العربية،لم يعد يشربها إلا خلال زياراته للأصدقاء أو في سفراته القليلة إلى البلاد العربية. كان يردد على مسامع المعارف والأصدقاء أن شرب القهوة العربية في الغربة بلا طعم،حيث القهوة عربية فقط بالاسم..في تلك اللحظة كانت قهوته المهجرية جهزت،انبعثت رائحة البن البرازيلي المخلوط مع البن الكيني من الإبريق الفضي.كان اشترى البن خلال رحلة قادته إلى فرنسا قبل اشهر..أعجبته قهوة فرنسا فاشترى كثيرا منها. ارتشف رشفة ساخنة من الكوب المعدني المفضل،ففي الكوب المعدني تحفظ سخونة القهوة،تبقى حارة لفترة طويلة. رأى الكوب لأول مرة في سيارة أجرة عندما أضطر لطلب تاكسي بعدما علق في عاصفة ثلجية بمكان بعيد عن موقف الحافلات، كان يومها يتبضع للعيد .. لم يسأله أحد لأي عيد تبضع.. ترافق مجيء الميلاد والأضحى في يوم واحد.. لم ترق تلك الزيارة للأطفال،عيدان في يوم واحد،يعني هدايا أقل وعطلة قصيرة .. لم يأبه لقلق الأطفال ، اشترى شجرة زينة وأضواء وشموع وكيك وكثير من الهدايا ، ملابس جديدة ، أحذية أيضا جديدة ، ألعاب كثيرة. وصل التاكسي الأنيق،مارسيديس حديث، موديل السنة، بانت السيارة من بعيد ، توقفت بهدوء ودونما جلبة، بدت كأنها نعامة شامخة، أو سلطانة مهابة. عندما ولج إلى داخل التاكسي لاحظ وجود الكوب المعدني. منذ تلك اللحظة قرر أن يشرب القهوة في كوب شبيه. إذ أنه يقضي ساعات من العمل خلف مكتبه،ولا يتمكن من ارتشاف القهوة الساخنة،لأنها سرعان ما تفقد سخونتها في الفنجان العادي.

زرع شجرة العيد في زاوية من بهو المنزل زينها بالأنوار والأضواء وكل ما هو مطلوب.وضع الهدايا تحت الشجرة وانتظر عودة الأطفال من مدرستهم،وزوجته من عملها.حينما عادوا جميعهم إلى المنزل لاحظوا أنه لم يضع النجمة فوق رأس الشجرة كما جرت العادة ، بل وضع مكانها هلالاً بلون السفرجل والمشمش.. هلال شرقي على شجرة عيد غربية... لولا فرح أطفاله بهدايا العيد لكان اليوم مر عليه كما كل يوم منذ غادر منزل العائلة قبل أكثر من نصف عمره ..