كيف سيشعر السوريون حينها؟!....

تعيش سورية اليوم في مآزق عدة، وليس في مأزق واحد، قد تكون أزمة العلاقات مع واشنطن هي أكثر المآزق البادية للعيان، لكنا نعتقد بأن مأزقاً آخر قد يكون الأكثر حدة، وقد يكون الحسم فيه، باباً للحسم في غيره من المآزق السورية، بما فيها مأزق العلاقات مع واشنطن.

ما هو هذا المأزق السوري الحاسم؟، وأين يكمن موقعه في خضم مآزق سورية عدة؟.

من يتابع تطورات الأحداث واللقاءات والاتصالات والتصريحات المتطورة، على الصعيد السياسي الإقليمي والدولي، وفي الآونة الأخيرة تحديداً، لا بد له أن يدرك أن أزمة الملف النووي الإيراني ليست أزمة علاقات منحصرة بين طهران وواشنطن، وعواصم القرار الأوروبية، بل هي أزمة شرق أوسطية إقليمية دولية بامتياز.

إيران الثرية الطموحة والإسلامية، تريد لها موقعاً يفوق ما حصَّلته حتى الآن، في محيطها الإقليمي الإسلامي، وبصورة خاصة في محيطها العربي، طهران تريد تجاوز خط أحمر أمريكي وأوروبي وإسرائيلي، وربما دولي، في أن لا تتجاوز دولة إسلامية –غير مدجنة بعد- خط القوة العسكرية التقليدية، لكن إيران تريد تعدي ذلك إلى حد امتلاك السلاح النووي.

لن نناقش مقولات الإيرانيين بأنهم يريدون امتلاك التقنية النووية، لخدمة أهداف سلمية، فهذه مقولات هشة، كما أننا لن نناقش مقولات أمريكية بأن السلاح النووي الإيراني سيهدد أمن المنطقة وخاصة إسرائيل لأنها مقولات وقحة.

ما نريد مناقشته هنا، هو موقع سورية من أزمة العلاقات الإيرانية الغربية عموماً، وخصوصاً منها تلك الخاصة بواشنطن، ومن وراءها تل أبيب، ويبدو هنا أننا سنلاحظ دون شك نقاط الالتقاء العديدة بين دمشق وطهران، ومن يدقق تماماً سيكتشف -وربما يصدم- أن كل أوراق القوة الإقليمية السورية تقريباً، خاضعة لحالة الشراكة مع إيران، فحزب الله، هو حزب إيراني الميل والتمويل، وإن كان سوري الموقف والدعم، وحركة الجهاد الإسلامي بدورها، قوة فلسطينية شيعية مخترقة –حسب الكثير من المصادر- وبصورة كبيرة ومتوافقة من قبل الجانبين السوري والإيراني، وحماس باتت اليوم تتلقى دعماً لوجستياً وتمويلياً كبيراً من جانب طهران، وتقيم كوادرها الأكثر فاعلية – راجع في ذلك كتبات متخصصين فلسطينيين- في دمشق.

إذاً، نستخلص من كل ذلك أن أوراق سورية الأكثر قوة والتي تريد واشنطن نزعها من قبضة دمشق، إنما هي أوراق إيرانية ربما بنفس الدرجة، لكن ماذا لو قطعت دمشق شريان الاتصال والتمويل بين هذه الأوراق (حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي)، وبين طهران؟!.

حقيقة علينا أن ننتبه لها تماماً، وهي أن دمشق تقبض بيدها على شرايين التمويل الإيرانية للقوى المذكورة آنفاً، وإن أدركنا هذه الحقيقة، سندرك بالتالي لماذا تتروى واشنطن في لعبة الضغط على سورية، ولماذا توغل في عملية الشد والجذب مع دمشق بحذر وروية، ولماذا كلما تفاقمت أزمة دمشق مع الأطراف اللبنانية والدولية الفاعلة وفق المخطط الأمريكي، تدخلت الرياض والقاهرة لتلطيف الأجواء وتقديم الدعم السياسي والمعنوي لدمشق.

حقائق هامة يجب الانتباه إليها، واشنطن ومن وراءها تل أبيب، تريدان فك الارتباط السوري الإيراني، وبالتالي إفقاد طهران أوراق قوة لها على الساحتين اللبنانية والفلسطينية، تستطيع بها تهديد أمن إسرائيل إن فكرت واشنطن بضرب مفاعلاتها النووية.

وإن كنا سنأخذ بتحليلات وبمعلومات متأتية عن مصادر عدة –وهذا ما يجب أن نفعله- بخصوص أجندة أمريكية جديدة، تعمل واشنطن من خلالها على القيام بعملية إعادة انتشار لقواتها العاملة في العراق، باتجاه قواعد عسكرية تسعة، حسنة التحصين، منهيةً بذلك حالة الاشتباك والاحتكاك المباشر بين جنودها وبين العراقيين في التجمعات المدينة، وبالتالي تقليل خسائرها إلى أقل الحدود على صعيد البشر وعلى صعيد الماديات، وهي تضمن في المقابل حلفها القوي مع أطراف شيعية وكردية وربما حتى بعض القوى السنية التي دخلت ساحة اللعبة السياسية العراقية بقوة، لتشارك تلك القوى الشيعية الإيرانية الميل والهوى، والتي تحظى حتى الآن بالقوة الأكثر فاعلية على الساحة السياسية العراقية.

إذاً، أمريكا ستتخلص من التهديد الإيراني في العراق، وهي تعمل –حسب مصادر عديدة- على تطوير تكنولوجيا وتقنيات خاصة بتحصين قواعدها العسكرية في الخليج، تحسباً لاستهدافها إيرانياً، ولا يمكن لنا في هذا الصعيد أن نعول كثيراً على احتمالات أن تخيب التكنولوجيا العسكرية الأمريكية في مواجهة تلك الإيرانية، لذلك نستطيع القول هنا، أن واشنطن حصنت نفسها في الخليج من أي تهديد إيراني.

إذاً، بقيت الساحتان اللبنانية والفلسطينية المخترقتان إيرانياً عبر قنوات سورية، فحين تبدأ واشنطن في إلقاء حميم نيرانها على منشآت إيران النووية، وربما منشآتها العسكرية غير النووية أيضاً، سيبدأ حزب الله –حسب تأكيدات سابقة لأمينه العام- في دك صروح المنطقة الصناعية في قلب إسرائيل الممتدة من تل أبيب إلى حيفا، وذلك باستخدام صواريخ إيرانية وربما روسية متطورة الصنع وصلت إلى أيدي مقاتلي الحزب –ربما عبر سورية-.

ونحن هنا لم نذكر موقع وتأثير قوتي الجهاد الإسلامي وحماس في هذه الحالة، وكم من اختراق قاسي قد ينفذوه في العمق الإسرائيلي، إن توافقت مصالح هذين الطرفين مع طهران ودمشق، وهذا غير مستبعد.

إذاً، إن كان أمن طهران وطموحها النووي في خطر، فإن أمن إسرائيل وبنيتها الصناعية التحتية ستكون في خطر، هذه هي المعادلة التي تحكم توازنات القوى وآليات الصراع الراهنة بين طهران وواشنطن وتل أبيب، لكن أين موقع سورية من هذه المعادلة؟، هذا هو المهم لدينا هنا، وهو ما أشرنا إليه سابقاً، سورية هي شريان الاتصال والتمويل الأهم الذي يربط بين طهران وبين أوراق قوتها على الساحتين اللبنانية والفلسطينية.

وهنا نعود إلى هذا السؤال: ماذا لو قطعت دمشق هذا الشريان؟، الجواب: ستخسر إيران آخر ساحة تستطيع عبرها أن تهدد أمن إسرائيل، إن هددت واشنطن أمنها، أي أن إيران – في تلك الحالة- ستصبح ساحة مشرعة أما اعتداء أمريكي واسع النطاق لتدمير قوتها العسكرية غير التقليدية وربما حتى التقليدية، وتكرر تجربة العراق عام 1991، وخاصة أن واشنطن استطاعت حتى الآن حشد موقف سياسي أوروبي، يدعم موقفها المتزمت تجاه طهران، ويبدو أن بكين وموسكو لا تزالان في حالة الترنح بين الموقفين الإيراني، وذاك الأمريكي والأوروبي، وإن كنا لا ننصح بالتعويل على موقفي موسكو وبكين في دعم طهران حين وصول الأزمة إلى الذروة، ونورد هنا خاطراً خبيثاً شيئاً ما: أليس من مصلحة موسكو التي تعتبر إيران بالنسبة لها منجم ذهب، أن تخضع بنى إيران التحتية والعسكرية والصناعية لتدمير واسع النطاق على أيدي الأمريكيين في ظل معارضة شفهية روسية، وبعد ذلك تكون الساحة الإيرانية مشرعة أمام شركات إعادة الإعمار الروسية، ألا يمكن أن تتوصل واشنطن إلى تفاهم مماثل بصورة سرية مع موسكو؟، أما بكين، فهل يعتقد أحد أن تحطم الأخيرة إطار سياسة الحياد على الساحة الدولية، التي تتبعها بكين منذ بدايات نهوضها الاقتصادي وبهدف خدمة هذا النهوض رغم كل ما تعرضت له واشنطن من تهديد لمصالح الصين في السودان وفي جنوب شرق آسيا، بكين تريد الوصول إلى مرحلة العملاق الاقتصادي الذي لا يقهر، وحينها فقط تفكر في خوض ساحة الصراع الدولي المكلفة –اقتصادياً- للغاية.

إذاً، التحالف مع دمشق هو الضمانة الأمثل لطهران، فعن طريقها فقط تستطيع إيران تهديد الأمن الإسرائيلي بصورة، تجعل الطرفين الأمريكي والإسرائيلي مضطران للمساومة والتفاهم، لكن ماذا عن موقف دمشق في هذا الإطار؟، وهنا فقط نصل إلى صلب حديثنا، فهذا هو أكثر المآزق السورية حدة، أيّ الخيارين ستختار دمشق، فكلا الخيارين مرين، ويتمتعان بقسوة كبيرة.

دمشق بين نارين: إما الاستمرار في استراتيجية التحالف مع طهران –والتي يبدو أن دمشق باتت مترددة حيالها- والتي يعتقد البعض أنها قد تفعَّل باتجاه تحالف عسكري مع زيارة أحمدي نجاد إلى دمشق، وهذا يعني أن دمشق ستخضع للمزيد من الضغوط المتصاعدة، وربما تتفاعل الأمور باتجاه ضربات عسكرية محدودة بهدف ليِّ ذراع دمشق، فالخيار الإيراني سورياً، يعني تثمير قوة دمشق في استخدام أوراقها الإقليمية في لبنان وفلسطين بصورة خاصة، وربما أيضاً في العراق، لكنها تعني أيضاً أنها ستقول لواشنطن بوقاحة: " لن نخضع لمساوماتكم، فاذهبوا إلى الجحيم".

واشنطن ستعمل على تفعيل ذريعة اغتيال الحريري والتحقيق الدولي، باتجاه تفعيل الضغوط على دمشق، والتصاعد بها عبر المؤسسة الدولية من درجة إلى أخرى أشد وطأة.

لكن ماذا يعني الخيار الأمريكي بالنسبة لدمشق؟، يعني هذا الخيار أن تتخلى دمشق تماماً عن تحالفها مع طهران، وأن تساعد على نزع سلاح حزب الله، وأن تضبط الكوادر البارزة في التنظيمات الفلسطينية المقيمة على أراضيها، لمنعهم من القيام بأي عمليات على الساحة الإسرائيلية، مهما صعدت تل أبيب من ضغوطها على الفلسطينيين، وعلى قواهم الإسلامية بصورة خاصة، وربا يمتد هذا الخيار باتجاه طرد الكوادر الفاعلة في حماس والجهاد الإسلامي من دمشق، تمهيداً لعمليات اغتيال إسرائيلية لهم في الخارج أو نفيهم باتجاه دولة كدولة قطر –خيار طرح سابقاً- لإخضاعهم هناك لإقامة جبرية في دولة مهادنة لواشنطن.

وقد يتسع نطاق هذا الخيار باتجاه تخلي سورية تماماً عن أي طموحات في إنتاج أو تطوير أسلحة دمار شامل، مما يعني احتمال المطالبة الأمريكية بفتح المنشآت العسكرية والعلمية السورية أمام التفتيش الدولي، وهو ما طرح أمريكياً في مراحل سابقة.

وأن تعمل دمشق على دعم السياسات والقوى الموالية لأمريكا في العراق، وأن تساعد في توطيد الأوضاع العراقية بما يخدم ويلبي الأهداف والطموحات الأمريكية.

في المقابل، لا يوجد المقابل المطلوب سورياً، لا نعتقد بأن قنوات الاتصال السورية الأمريكية، تلك المباشرة منها، أو تلك القائمة بالوساطة، قد استطاعت تحصيل وعد أمريكي لدمشق باستعادة الجولان، فالجولان غير مطروح البتة، وربما يكون المقابل المطروح أمريكياً، "ضبضبة" التحقيق الدولي في اغتيال الحريري، وتجفيف نتائجه وحصرها في مستويات منخفضة من المسؤولين الأمنيين السوريين، ومن ثم تقديمهم إلى محاكمة دولية تمتع بالكثير من "العدالة" –حينها- للسوريين تحديداً، إلى جانب استثمارات واسعة ودعم اقتصادي لسورية، وتغطية سياسية أمريكية للنظام السوري.

لكن لنتخيل النتائج المستقبلية للخيار الأمريكي سورياً:

في المدى القريب: سورية ستنجو من الضغوط والتهديدات، وقد تتحول إلى حليف استراتيجي لواشنطن في المنطقة، ستوقع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وستدخل سورية منظمة التجارة العالمية، وما يرافق ذلك من استثمارات ودعم وقروض، سورية ستنتعش اقتصادياً، وستتجاوز مأزقها الراهن، لكن......

علينا أن ننتبه بدقة، فالكرامة ستراق، مشهد نزع سلاح المقاومة اللبنانية، وتحطيم تلك الفلسطينية، لن يمر دون أن يترك ندبات مؤلمة في ذاكرة السوريين كشعب، كشعب رغم كل ما يعانيه من مآسي الفساد والكبت والتجاوزات من قبل السلطة، والضغوط والتهديدات والتصعيد من قبل واشنطن، إلا أنه لا يشعر أبداً بشعور المرارة الذي قد –بل- سيشعر به حينما يبيع قوى يعتز –ربما دون أن يشعر- بأن حكومته تدعمها، بل ويعتز بأن هذه القوى التي تحظى بشعبية عالية في الشارع العربي ومن ضمنه السوري، تشهد ليل نهار، بدعم سورية ومواقفها الإيجابية إلى جوارها.

كيف سيشعر هذا الشعب، والجولان بات من الماضي، وحزب الله وخطابات نصر الله الرنانة التي تقدح في أذهان السوريين بحدة، باتت من الماضي، وقد تتحول إلى صرخات استنكار مكسورة، تشفي غليل الإسرائيليين منه، وكيف سيشعر السوريون والشعب الفلسطيني يفقد أذرع مقاومته، وشرايين دعمه، وينهار تحت وطأة الجبروت الإسرائيلي.

قد يزيل الانتعاش الاقتصادي –الذي نشك بمداه وتجربة مصر شاهدة على كذب الوعود الأمريكية- غباشة الكرامة المسالة، عن أذهان السوريين، لكن مؤقتاً فقط، وحينما ينتعشون مادياً –هذا إن سمحت لهم إسرائيل بالانتعاش-، سرعان ما ستنتعش في وجدانهم مشاعر الحنق لما أسيل من كرامة، ولما أهين من شرف على مذبح الرضى الأمريكي- الإسرائيلي.

سيتصاعد التطرف الإسلامي؟،.....دون شك.

سيترنح موقف السلطة في الداخل؟،.....أكيد، فشعارات الصمود ستهوي، ومثالب السلطة ستتعرى وتبرق بريقاً يغيظ السوريين بعد أن فقدوا أبرز مبررات صمت بعضهم وتأييد الآخر لهذه السلطة، فالسوري حتى اليوم يقول في ذاته: "هذه السلطة صامدة أمام إسرائيل وتؤلمها من حين لآخر؟!... وهذا يكفي!!".

إذاً، لنتصور مستقبلنا إن اتخذنا جانب الخيار الأمريكي، هل هو مستقبل زاهر؟، قد يراه البعض كذلك.

ماذا عن الخيار الإيراني سورياً؟

تصاعد وتيرة وسقف طلبات التحقيق الدولي، اتهامات تطال شخص الرئيس، ودعم لمعارضة متمولة غربياً، وانشقاقات أخرى، وتهديدات أمريكية...ضربات عسكرية محدودة، وربما عقوبات اقتصادية تطال مسؤولي السلطة بهدف شخصنة الأزمة، وزيادة الضغط النفسي على رجالات السلطة كي يرضخوا...لأنهم إن رضخوا ستزول هذه العقوبات دون أن يزولوا... ماذا أيضاً؟.....وماذا أكثر؟....حرب شاملة في المنطقة؟، نيران تطلق من الجبهة السورية واللبنانية؟، حرب عصابات شاملة؟، أمن سورية سيهدد؟، نعم لكن مؤقتاً، لأن أمن إسرائيل سيترنح ولن يستمر الأمر طويلاً حتى تقرر تل أبيب ومن وراءها واشنطن -هذه المرة-، تقديم التنازلات سعياً وراء إطفاء النيران المشتعلة،......إذاً من سينتصر؟، قد تمتلك ٍإيران السلاح النووي، وقد تستعيد سورية الجولان، وقد تقدم إسرائيل تنازلات قاسية على الصعيد الفلسطيني؟.

ما رأيكم بهذا الخيار؟، هل هو خيار منطقي؟، على المدى القريب سيسود الألم، وسنقدم تضحيات جمَّة، لكن على المدى البعيد سيكون شرفنا وحقوقنا، الطرف المنتصر.

هل هو خيار معقول؟، قد يقول البعض أن كاتب هذه السطور -والأخيرة تحديداً- مجنون أو متعصب، لكن دعنا نتفكر تماماً، قبل أن نبيع أنفسنا لإله المادة، لأنه لن يبقى طويلاً راضياً عنا.