تتبع حركة «حماس» مبدأً أميركياً وُجد في واشنطن من يسمّيه «الغموض البنّاء». فهي لا تفاوض إسرائيل في ما لو تولّت السلطة، ولا تعارض مفاوضتها من قبل الذين يفاوضون. وإذا قال أحد قادتها، إسماعيل هنيّه، كلاماً ليّناً فُهم منه الاعتدال والمرونة في أمر تطبيق الشريعة والتعاليم الدينيّة، قال واحد آخر من قادتها، محمود الزهّار، كلاماً متشدّداً في الموضوع نفسه. أما مع الانتخابات الجارية التي تخوضها «حماس» فيبلغ الغموض أوجه. ذاك أن الحركة التي سوف تصبح جزءاً من السلطة التشريعيّة الفلسطينيّة، وربما التنفيذيّة أيضاً، لا تقول إنها لن تنزع سلاحها لمصلحة وحدة السلطة. فهي ستكون جزءاً من سلطةٍ سوف تعمل على إضعافها بكسر احتكارها للعنف، وطبعاً لقرار الحرب والسلم، وللعلاقات الخارجيّة والديبلوماسيّة، على ما يشي لقاء دمشق الأخير بالرئيس الإيراني أحمدي نجاد.

وغموضٌ كهذا يشبه طور «حماس» الراهن المترجّح بين الديني والسياسي، وبين العسكري والبرلماني، وأساساً بين الاستمرار جزءاً من المشكلة والابتداء كجزء من الحلّ. فما لم يُحسم الغموض وقعت «حماس»، بعد «حزب الله»، في تلك الخرافة، أو أقلّه الهرطقة، القائلة إن المؤسسات هي التي تتكيّف مع القوى والأشخاص والبرامج فيما تقضي الممارسة المؤسسيّة، حكماً وحصراً، بتكييف القوى والأشخاص والبرامج مع المؤسسات.

وكان «حزب الله» بلغ، في غموضه، ذرى غير مسبوقة تجد مُعادلها في موقعه الحالي كطرف حكومي غير حكومي. لكن آخر إبداعات «الحزب» على الصعيد هذا دمجُ الفتوى بالحياة السياسيّة والدستوريّة، بل الميل الى اشتقاق الثانية من الأولى كأنهما من جنس واحد. وهذا إن لم يكن جديداً كليّاً في لبنان، فالجديد فيه أن موضوع الفتوى المُلزمة يتناول، هذه المرّة، المشاركة في... الحكومة! فضلاً عن إحرازه دعم قوى تقيم في المتن السياسيّ العريض وتأييدها.

ذاك أن رئيس «هيئة علماء جبل عامل»، الشيخ عفيف النابلسي، أصدر فتواه مُحرّماً فيها «على أي طرف سياسي شيعي أن يدخل بديلاً ورديفاً عن ممثلي [حركة] أمل وحزب الله [لأن دخوله] دخول غير شرعي». وفي تعليل الفتوى أن من «يدخل بديلاً ورديفاً» «لا يمثّل الواقع الشعبيّ، ولا يحوز الإيجاز الشرعي المطلوب».

وقد وجد عدد من المثقفين والناشطين الشجعان في فتوى كهذه ما يستحقّ مقاضاة صاحبها قانونيّاً، بسبب ما تنطوي عليه من «وصاية غير مشروعة في أمر يعود الى تقرير سياسي وتصرّف حرّ، لا شأن للشرع في بتّه أو في تقويمه في نطاق القوانين اللبنانيّة التي تعيّن حقوق المواطنين وواجباتهم، أو تنظّم شؤونهم الدينيّة ومؤسساتها، كما يعزّز بعامّة معنى الاستهانة بالحدود القانونيّة، كأننا في مخيّم موقّت أو في شريط حدوديّ أو في دول عديدة».

لكن الشيخ النابلسي لقي «أوسع التضامن» لدى الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصر الله الذي اعتبر مساءلة الشيخ قانونيّاً «تطاولاً على علماء الإسلام». والى نصر الله، ضمّ صوته كلٌ من رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان، والسيّد محمد حسين فضل الله، ورئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وطبعاً «الوكيل الشرعي العام في لبنان لمرشد الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة الإمام الخميني» (هذا بعض لقبه الرسمي) الشيخ محمد يزبك. وفي هذه الغضون، وكالعادة، دينَ «التطاول على العلماء»، وأشير الى أن «وراء هذه الحملة سفارات تريد أن تحرق لبنان»، واتُهمت «التدخّلات الخارجيّة السافرة في الشؤون اللبنانيّة وحركات بعض السفراء المكوكيّة». ولا يُستبعَد أن ترتفع أصوات يساريّة علمانيّة تكابد الشوق لملاقاة الإمبرياليّة في منتصف الطريق، فتدلي بدلوها دفاعاً عن الفتوى واستخراج السياسة منها.

إن كل من مسّه التنوّر مسّاً لطيفاً يضعه هذا الغموض «البنّاء» أمام وضوح قاتل يُراد له ألاّ يُرى.