هل أصبح الأمر الذي “لا يمكن التفكير به”، أمراً “يمكن التفكير به”؟

أجل. أو هذا على الأقل ما فهمه المحللون من الخطاب المفاجأة الذي أدلى به الرئيس الفرنسي جاك شيراك الخميس الماضي، والذي هدد فيه باستخدام الأسلحة النووية ضد الدول الراعية للإرهاب.

شيراك برر هذه النقلة بأنها “ضرورية لتحديث المبدأ الاستراتيجي الفرنسي”، في ضوء استمرار التهديدات للسلام، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والاضطرابات الإقليمية، في حقبة ما بعد الحرب الباردة. بيد ان ما فعله كان أكثر بكثير من “التحديث”. إنه، كما قال فرانسوا هايزبروج مدير مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية الفرنسي، صوّب الأسلحة النووية نحو أهداف سياسية بدلاً من الأهداف الديموغرافية، ووضع الرادع النووي في سلة واحدة مع مشكلة الدول الحاضنة للإرهاب. مضاعفات هذا التغيير ليست صعبة على التكهن. فهي ستزيد إلى حد كبير من مجالات استخدام الأسلحة النووية كسلاح للحرب لا كأداة للردع، وستجعل هذه الأسلحة أنجع وسيلة لمجابهة مخاطر الإرهاب غير التقليدي. وهذا بات ممكناً الآن بعد التطويرات التي طرأت على الرؤوس النووية فجعلتها أصغر كثيراً وأكثر دقة بما لا يقاس.

بيد أن المضاعفات الأهم ستحدث في مكان آخر: أمريكا. لماذا؟ لأن عقيدة شيراك الجديدة ستمنح عقيدة بوش النووية القديمة، غطاءً شرعياً قوياً من طرف دولي لطالما انتقد سياساته العسكرية ومبادئها. والمقصود هنا استراتيجية “مراجعة الوضعية النووية” التي وضعها البنتاجون وأقرها البيت الأبيض في ربيع العام ،2002 والتي تضمنت، كما هو معروف، المحاور الرئيسية الآتية:

نهاية الحرب الباردة ستدفع إلى تغيير وجهة استخدام الأسلحة النووية. وهذا سيتم لمجابهة ثلاثة أنواع من الأوضاع: ضد أهداف قادرة على تحمل هجوم أمريكي بأسلحة غير نووية؛ رداً على هجوم بأسلحة نووية أو بيولوجية او كيماوية؛ أو “في حال حدوث تطورات عسكرية مفاجئة”. وهذه العبارة الأخيرة تعني قيام دولة متشردة أو منظمة إرهابية بهجوم مباغت بسلاح غير معروف من الصعب مجابهته بالأسلحة التقليدية”.

العمل على تطوير أسلحة نووية صغيرة لاستخدامها ضد أهداف سياسية أو إرهابية، بدلاً من الأسلحة الكبيرة “المزعجة” التي تدمّر المدن وتنشر الإشعاعات الذرية في مناطق شاسعة. وتم(آنذاك) تحديد سبع دول يمكن أن تطبق عليها الاستراتيجية النووية الجديدة هي، إلى روسيا والصين، إيران وسوريا وليبيا والعراق وكوريا الشمالية. كما اعتبرت أي حرب عربية “إسرائيلية” دافعاً مبرراً لشن هجوم نووي.

حين نشرت هذه الوثيقة العام ،2002 أقامت الدنيا ولم تقعدها في أمريكا وخارجها، لأنها عنت ببساطة أن استخدام الأسلحة النووية لم يعد من المحرمات بوصفه “الملجأ الأخير”، بل بات في مصاف الخيارات الاولى. والآن، ومع انضمام فرنسا إلى ركب الاستخدامات العسكرية النووية الموسّعة، سيدخل العالم بأسره مرحلة جديدة وخطرة، تتسابق فيها الدول الكبرى الى التهديد بالضربات النووية، والدول المتوسطة الى حيازة النوويات لردع هذه التهديدات.

قد يقال هنا إن شيراك أقدم على هذه الخطوة، لأنه خشي أن تسفر المجابهات مع النظامين الإيراني والسوري عن عودة العمليات الإرهابية التي ضربت باريس في الثمانينات، لكن هذه المرة بأسلحة دمار غير تقليدية. ربما كان هذا صحيحاً. لكن الصحيح أيضاً أن شيراك شاء أم أبى، دفع “العتبة النووية” (Nuclear Threshold) من مجال الردع النظري إلى مجال الحرب الفعلية.

لقد بات “ما لا يمكن التفكير به”، أمراً “يجب” التفكير به، وبإمعان أيضاً. وهذا تطور لا يمكن إلا أن يثير الحبور في قلوب كل المحافظين الجدد في أمريكا والمحافظين القدماء في إيران، والذين يتلاعبون الآن بشكل خطر بالأزرار النووية.