يتابع المراقبون بشيء من الاهتمام الأزمة الخافتة التي تسير اليها العلاقات التركية الايرانية. ومن دون أن يعني ذلك ان سوريا بعيدة عن هذا الواقع الجديد في المنطقة بعد الهجوم الأميركي الاسرائيلي لاحتواء تركيا وعزلها عن طهران ودمشق.

وأول ما يلفت الانتباه بذلك هو تعامل حكومة رجب طيب أردوغان، مع هذه الأزمة دون تهويل أو تهوين حيث بدا أنها مدركة لحساسية المسائل الاقليمية، وأن مدى قدرتها على اتخاذ الاجراءات المناسبة، هو كفيل قوي لأهليتها، لا سيما وأن حجم تجارة تركيا مع ايران يبلغ أربعة مليارات دولار، بالإضافة الى ذلك تهديد طهران بأن أية مواجهة أوعقوبات عليها من قبل الغرب ستؤدي الى ارتفاع اسعار النفط الى أكثر من مئة دولار، وهذا سيصيب الصناعة التركية بآلام عديدة في مرافقها الحيوية.

ومن المتوقع أن تحدد حكومة اردوغان موقفها النهائي من الأزمة الايرانية بعد التأكد من سير التطورات السياسية في العراق ومستقبل التوتر المستمر بين دمشق وواشنطن وانعكاسات ذلك على الوضع الداخلي في لبنان أيضاً، حيث تراقب أنقرة كل هذه التطورات عن كثب كما هي تستمر في حوارها مع العاصمتين دمشق وطهران لاقناع الطرفين بضرورة تجنب المواقف المتشددة والاستفزازية ومتابعة التعاون مع المجتمع الدولي لحل كل المشاكل القائمة.
صححيح أن هناك محاولات تجري بدعم من واشنطن وتل أبيب لاستفزاز حكومة أردوغان بوسائل مختلفة لجرها الى سباق نووي مع أيران كما جرى بين الهند وباكستان، الا أن الصحيح أيضاً هو مساعي الأميركيين والاسرائيليين لكسب أنقرة الى جانبهم من خلال بيعها أسلحة متطورة بما فيها صواريخ "آرو" الاسرائيلية وطائرات "أواكس" باعتبار أن تركيا الدولة الوحيدة التي تستطيع أن تتصدى للخطر الايراني النووي في المنطقة.

على خلفية هذه التوجهات تشهد تركيا نقاشاً مثيراً بشأن دورها المستقبلي في تطورات الأزمة المستمرة بين طهران والعواصم الغربية. وتطالب الأوساط الاعلامية والسياسية أردوغان بضرورة التهرب من أي تنسيق وتعاون مع واشنطن والعواصم الغربية ضد ايران، ذلك أن واشنطن التي فشلت في السيطرة على الوضع الأمني في العراق بسبب المقاومة السنية لا يمكن لها أن تستدعي شيعة العراق بتفجير الأزمة مع ايران. ولكن وبحسب الوقائع، فان أردوغان يبدو وكأنه قد تأثر بالضغوط الأميركية ـ الاسرائيلية، وهو لا يريد أي أزمة في علاقته بواشنطن التي يتجنب استعداءها في هذه المرحلة بالذات حيث تستمر الحاجة التركية للولايات المتحدة على الصعيدين الداخلي والخارجي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.

لا تزال أنقرة بحاجة الى المساعدات المالية الخارجية حيث ستسدد خلال هذا العام قسماً مهماً من ديونها الخارجية وهي في حاجة الى 124 مليار دولار من الاستقراض الخارجي والداخلي، كما أن أردوغان الذي يستعد لترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية العام المقبل يرى في الدعم الأميركي وبالتالي الأوروبي له قوة احتياطية يلجأ اليها في حال توترت علاقته مع الجيش والقوى العلمانية داخل تركيا.
وجاءت زيارة نائب القوات الأميركية في أوروبا الجنرال تشارلز والد الى أنقرة مؤخراً لتضع النقاط على الحروف في ما يتعلق بمجمل هذه التفاصيل الخاصة بالعلاقة التركية ـ الأميركية التي ستتضح معالمها خلال الأسابيع القليلة المقبلة بكل انعكاسات ذلك على السياسة الخارجية لحكومة العدالة والتنمية التي ستجد نفسها أمام خيارات صعبة جداً، فإما أن تدخل في حوار وتعاون استراتيجي وتتحمل أعباء ومسؤوليات هذا التحالف أو أنها تستمر في أسلوبها الحالي للموازنة بين الحسابات التركية والمطالب الأميركية الخاصة بسوريا وإيران التي جاء من أجلها والد الى أنقرة حيث تتحدث المعلومات عن اصرار أميركي للتعاون المشترك ضد سوريا التي تتهمها واشنطن بالتدخل السافر في العراق بالاضافة الى دورها ومسؤولياتها في الأحداث الأخيرة في لبنان. كما تطالب واشنطن أنقرة بتحمل أدوار أخرى وأكثر فعالية وتأثيراً في مجريات الأحداث في العراق لمواجهة الدور الايراني الذي بات يقلق واشنطن وتل أبيب بسبب خطر حزب الله على اسرائيل عبر لبنان.

وفيما يزداد الدور الاقتصادي التركي في العراق، حيث يستورد العراق والجيش الأميركي غالبية احتياجتهما من تركيا التي تغطي 90 في المئة من احتياجات "كردستان" العراق كما يقوم رجال الأعمال الأتراك بتنفيذ 90 في المئة من مشاريع التنمية هناك. ويبقى ملف حزب العمال الكردستاني الموضوع الرئيس في مساومات أنقرة مع واشنطن التي أن أثبتت رغبتها الصادقة في مساعدة تركيا في هذا الموضوع فحينها سيكون القرار بالنسبة لاردوغان أكثر سهولة في الرد على المطالب الأميركية في ما يتعلق بالأمور الأخرى بما فيها سوريا وايران على الرغم من شعوره العاطفي تجاه هاتين الدولتين!
وبمعنى آخر قد يضطر أردوغان للتخلي عن هذه المشاعر العاطفية التي ستحل محلها المصالح الاستراتجية لتركيا التي يهمها بالدرجة الأولى اغلاق ملف حزب العمال الكردستاني وهو ما لم ولن يتحقق لها الا بمساعدة واشنطن.