ما الذي حققته فرنسا كتيار ثالث خلال أزمة مناقشة الملف العراقي في مجلس الأمن؟! ففرنسا الذي تميز خطابها بمحاولة تعميق مفهوم "الشرعية الدولية" كانت تقف مع أقوى شعور دولي ضد الحرب، لكنها في نفس الوقت لم تكن ترى في النظام السياسي العراقي مسألة يجب الدفاع عنها، بينما رأت في موقف الولايات المتحدة حالة أسوء، من حيث النتائج الاستراتيجية على فرنسا، من استمرار النظام السياسي. وهذه الصورة تقدم ومضة اولى عن أزمة التيار الثالث الذي يقف عند حدود مساحة غامضة وسط عالم لم يخلق بعد مفهوم التيار الثالث.

وربما كانت فرنسا نموذجا شديد المعاصرة عن حالة تملك القوة عبر جملة تيارات لكنها في نفس الوقت لا تملك الآليات اللازمة للتعامل مع طبيعة التيار الثالث وقدرته على فتح آفاق جديد في العمل السياسي. فكانت الحرب التي ترافقت بمظاهرات في كافة انحاء العالم ضد الحرب ... وكان لا بد لفرنسا بعد أن انتهى الطرف المعني بالأزمة أن تعود مجددا للعب دورا آخر، لكن الأزمة الأساسية بقيت قائمة، حيث يجد "التيار الثالث" نفسه محشورا بين خيارين صعبين وغير قادر على رسم خيارته نتيجة لحدة الصراع أحيانا، أو لعدم قدرته على رسم خياراته بواقعية ... وهذا السؤال ينسحب إلى خارج فرنسا وباتجاه الصراعات الدائرة بين السلطة الرسمية والمعارضة أحيانا، او بين أقطاب التيار السياسي الواحد.

ورغم أن الحديث عن "تيار ثالث" يعني في النهاية المحاولة في خلق إبداع خاص وسط الأزمة، يخرج عن المألوف، لكنه في الإجراء السياسي لا يهدف إلى إصلاح أي من طرفي الصراع، فعدم انحيازه يضعه ضمن سياق الضعف وسط حدة الأزمة. لكن قوة التيار الثالث تكمن عمليا فإنه يبحث عم هم خارج الدائرة الفعلية للاستقطاب، أي انه يريد دفع الآخر – المحايد لاتخاذ موقف معه.

ما ضرورة هذا التنظير؟! أو العودة إلى فرنسا للبحث في يعض المسائل التي باتت معروفة؟! هذا السؤال يجابهنا في البحث عن المستقبل، بلون خاص .. لأن مفهوم التيار الثالث وإن بقي ضعيفا لكنه قادر فهم طبيعة "الغد" لأنه ينسحب من النخب "الرسمية" و "المعارضة" محاولا خلق تفاعله الخاص مع المجتمع ... مع الثقافة الاجتماعية التي يهمها "الغد" بعد ثورة القلق التي عاشتها وتعيشها نتيجة التوقف عند حدود صراع رسمها الماضي.

والمسألة ليست حلما فقط، لأننا عندما نقول "التيار الثالث" فإننا لا نتحدث عن تصنيف سياسي، بل أيضا عن جهد شاق يستهدف المستقبل والتعامل معه بصورة جديدة كليا.