يحلو للبعض القول بأن سيناريو احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الرأسمالية المركزية، وفي ذيلهما بعض دول الأطراف يمكن تكراره بالنسبة إلى سوريا مع بعض التعديلات التي تتناسب والواقع الجيوسياسي للقطر العربي السوري، ارتباطا بالعامل اللبناني والفلسطيني والعراقي إضافة إلى جملة معطيات الوضع السوري ذاته.

ذلك أنه لا يمكن تصور استنساخ الحالة العراقية حتى في خطوطها العامة على المعطى السوري ارتباطا بأن جملة العوامل السورية الذاتية والموضوعية إضافة إلى العامل الخارجي الإقليمي والدولي، إنما تختلف إلى درجة التناقض عنها في الحالة العراقية التي هي في الأساس قد بنيت على جملة من الأكاذيب المفضوحة منذ البدء.

إلا أن تلك الادعاءات الكاذبة في الحالة العراقية قد غطى عليها إلى حد الفجاجة وقاحة المنطق الذي اتبعته إدارة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، ساعدهم في ذلك معارضة عراقية حكمها منطق العراق "الغنيمة" مقسمة على عدد الطوائف والمذاهب والإثنيات، جرى صناعة بعضها في عواصم الغرب الرأسمالي ، فكان أن دخلت العراق خلف جحافل الجيوش الغازية، لتضفي على ذلك الغزو بعضا من القبول العراقي، أبته عليه الأمم المتحدة.

وإذا ما أضفنا إلى ذلك حالة التعارض إن لم يكن التناقض بين عراق ما قبل الغزو وبعض دول الجوار التي فتحت أرضها ومياهها وسماءها في إطار خطة غزو واحتلال العراق في مشاركة فعلية لتغيير النظام تغييرا شاملا، بما يقضي على العراق الدولة المركزية الواحدة لصالح العراق المتناحر الهش الموزع على الطوائف والمذاهب والإثنيات، كي يفقد دوره الإقليمي المركزي التاريخي لصالح دول إقليمية أخرى، حيث مثلت تلك المشاركة عاملا جوهريا مقررا في تمكين الإدارة الأمريكية من تركيز قواتها في تلك الدول عبر توفير المراكز اللوجستية المتنوعة، من أجل حشد أكبر قدر ممكن من القوة العسكرية للانطلاق بعدها لتدمير العراق البنية الأساسية والشعب.

فإن ذلك المثل لا يمكن التسليم بتكراره بأي حال، لأنه إذا كان صحيحا أن جزءا هاما من المعارضة العراقية قد وفد مع القوات الغازية ووفر لها ذلك الكم من المعلومات الاستخبارية، بل وساهم في إطلاق حملة الدعاية ضد النظام بالترويج للأكاذيب الأمريكية ـ البريطانية، فإن الحال مع سوريا يختلف عن ذلك اختلافا جوهريا، لأن المعارضة بأغلبيتها في المشهد السياسي السوري سواء كانت تلك التي تنطلق من معارضة سياسة النظام من الداخل عبر المنابر المتعددة أو بعض تلك المعارضة التي تعيش في الخارج وهي في مجملها محدودة كما وكيفا، إنما هي في مجملها تأبى أن تُستدعى أو أن تكون حصان طروادة للولايات المتحدة أو غيرها من أجل ضرب سوريا، لأنها في الأساس معارضة وطنية ديمقراطية بامتياز، لا يحكمها البعد الطائفي أو المذهبي أو الإثني.

فالمعارضة السورية تملك رؤية سياسية وفكرية لا ترى في سوريا إلا وطنا لجميع أبنائه، يحكمها في ذلك مفهوم المواطنة، وهي في ذلك تتقاطع بشكل أو آخر مع مجموع القوى والأحزاب في الجبهة الوطنية التي تشكل النظام السياسي الحاكم في سوريا، والذي يشكل حزب البعث فيها الدور القائد رغم كل الملاحظات التي يمكن أن تقال حول الجبهة ودورها واستقلالية قرارها، في الوقت الذي تحاول فيه الإدارة الأمريكية وبعض المراكز الإمبريالية خلق صنائع معارضة على غرار ما جرى مع بعض المعارضة العراقية، إلا أن تلك الحالات المعارضة على قلتها سواء كبرت لافتاتها العقائدية أو السياسية أم صغرت، فإنها تبقى معارضة هامشية ومتهافتة ولا تتعدى أن تكون صدى للدعاية الإمبريالية ضد سوريا والأمة العربية في الجوهر مهما قالت بعكس ذلك.

ولأن درس العراق من الغنى والأهمية، لذا يجب أن يكون حاضرا في وعي الجميع سواء كان النظام السياسي السوري أو كانت المعارضة الوطنية الديمقراطية السورية في الداخل والخارج، ذلك أن شرط مواجهة التحدي الذي يستهدف سوريا الدولة والكيان السياسي الذي يجب أن يكون لكل أبنائه، إنما ينطلق من مسلمة الانفتاح الحقيقي على كل القوى السياسية المعارضة في سوريا وخارجها، والتي تقبل الانضباط لمعطيات الواقع السوري وشروطه وفق الآليات التي يجب أن تحددها مجموع تلك القوى في المشهد السياسي السوري مجتمعة، على قاعدة المساواة في المواطنة ومتطلبات دور سوريا الديمقراطية الوطني والقومي الممانع، باعتبارها آخر متاريس الممانعة العربية في مواجهة التغول الأمريكي والعدوانية الصهيونية.

ويجب أن لا يكون ذلك من باب الانحناء لشرط اللحظة من قبل السلطة السياسية السورية، بل يجب أن يكون ذلك بابا مشرعا على الإصلاح بمفهومه الواسع السياسي والاقتصادي والإداري، من أجل سد المنافذ أمام أي رياح غريبة لا تريد الخير لسوريا ولأهلها، ويمكن أن يتسلقها البعض ممن لا يجد غضاضة في أن يبيع أي شيء حتى وطنه، والأمثلة والشواهد حاضرة ، ومن ثم فإن كلمة السر في مواجهة كل من يتربص شرا بسوريا الوطن، إنما ينطلق من شرط بناء الجبهة الداخلية بحيث تتسع لجميع ألوان الطيف السياسي على اختلاف منابعه الفكرية والسياسية دون وصاية من أحد على أحد أو إقصاء لأحد، وبما يكفل وجود الجميع.

ومع ذلك فإن هذا الاختلاف الجوهري فيما يتعلق بعلاقة المعارضة السورية مع النظام السياسي السوري مقارنة بالحالة العراقية آنذاك، لا يمكن اعتباره العامل الوحيد في التباين بين معطيات الحالة العراقية والحالة السورية، لأنه إذا كان صحيحا أن بعض دول الجوار كانت تعمل سرا وبعضها الآخر علنا ضد العراق بالتواطؤ مع القوات الغازية، فإن تلك الحالة لا يمكن القياس عليها أو تكرارها تماما بالنسبة إلى سوريا، ذلك أن الذرائع التي استطاعت إدارة المحافظين الجدد تسويقها ضد العراق، بات من غير الواقعي أن يجري إعادة إنتاجها بما يتوافق والحالة السورية مرة أخرى، لأسباب تتعلق بالجغرافيا وأيضا بالمحيط الإقليمي وكذلك بسبب من استمرار تداعيات الحالة العراقية التي لا زالت القوات الأمريكية غارقة في مستنقعها حتى الآن.

ومن ثم إذا كانت الإدارة الأمريكية قد حاولت وتحاول من خلال استثمار "دم الحريري" أن تجد ذريعة للضغط على دمشق وبما يتجاوز الضغط السياسي دون الوصول إلى الفعل العسكري راهنا، فإن معطيات الوضع اللبناني الداخلي مهما حاولت أمريكا أن توظفه أو توظف بعض رموزه السياسية من أجل تكريس حالة من العداء والاستعداء على سوريا تصفية لحسابات هزيمة المشروع الصهيوني في جنوب لبنان، فإن أفق ذلك التحرك تبقى محكومة بشرط اللعبة السياسية في لبنان، وبالدور الحقيقي للبنان الوطني العروبي، والذي سجل أول انتصار عربي واضح دون شروط على العدو الصهيوني المقاوم بمسيحييه ومسلميه، ومن ثم فإن الشواهد تؤكد أن لبنان ذاك لن يكون بحال بوابة العبور لضرب سوريا، أو تمكين أحد من تهديد أمنها، وهي معادلة تدركها بعض الأطراف اللبنانية التي انحازت للمشروع الأمريكي كما تدركها الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني.

بل إن أي محاولة من ذلك القبيل قد تكون مدخلا لخلط الأوراق، بما لا يخدم المشروع الأمريكي، إذا ما وضعنا في الحسبان أن المقاومة العراقية بكل ألوان طيفها قد تكون عندها طرفا مباشرا في صراع عسكري قد ينشأ، بل إنه قد يوفر لها اللحظة التاريخية لقلب موازين القوى في المشهد العراقي بكامله، وهو الأمر الذي سيسحب نفسه على كل من المقاومة الفلسطينية واللبنانية، اللتان ستجدان أن الضرورة تفرض عليهما دورا مركزيا في أي صراع قد ينشأ، مما قد يفتح باب الصراع على مصراعيه دون أن تملك تلك القوى التي فجرته القدرة على التحكم في قوانينه، مما لن يجعل العديد من دول المنطقة بمنأى عن تداعياته.

ولا يمكن فهم تزامن هذه الحملة على المقاومة الفلسطينية وعلى سلاح حزب الله بالترافق مع الضغط على سوريا إلا في سياق خدمة ذات المخطط، ومع ذلك يجب أن يستقر في وعي الجميع أن الأساس في حماية سوريا ابتداء إنما ينطلق من القاعدة التي تقول بأن تنتصر سوريا لذاتها من خلال إطلاق الحريات العامة والبدء بحوار سياسي شامل مع جميع القوى، ليس خشية من أحد أو تحت ضغط أحد بل لأنها الإرادة والضرورة السورية الوطنية والقومية البحت،لأن قوة سوريا من قوة نسيجها الداخلي بتنوعه السياسي والفكري، ذلك أن القلعة المحصنة بمجموع أهلها لا يخترقها الرصاص الغريب.

مما قد يمنح العديد من الأطراف الدولية المقررة الفرصة بعدم تبني الأجندة الأمريكية، التي تحاول خلق الذرائع المتهافتة، والتي لا يمكن أن تحظى بالمصداقية والقبول الدولي ناهيك عن الرضا الإقليمي، سواء كانت الذريعة هي التدخل في الشأن العراقي أو مساندة المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية، لتبقى ورقة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري هي "الفزاعة" الدائمة التي يجري استثمارها من قبل الإدارة الأمريكية تغذيها في ذلك دعوات بعض الأطراف اللبنانية التي تحاول تصفية حساباتها الخاصة مع سوريا، من خلال الأجندة الأمريكية طالما بقيت الحقيقة في اغتيال الحريري مغيبة.

فالحقيقة دون غيرها هي الرد على كل التحامل الاتهامي لدمشق ابتداء، ومن ثم فقد بات من غير المستغرب لخدمة ذلك الهدف أن تجري محاولات لوي عنق الحقيقة من أجل خدمة أغراض سياسية لبعض الفئات اللبنانية المحكومة للأجندة الأمريكية من خلال العمل على "تفريخ" شهود الإثبات ضد سوريا، ولعل أسوأ ما طرأ بعد ضحالة تقارير القاضي ميليس القانونية، هو أن يضع أحد رموز وصنّاع القرار السياسي في سوريا على مدى عقود نفسه في ذلك الموقع المهين ، ليكون أحد أدوات القوى المعادية للنيل من سوريا بدعوى الديمقراطية والإصلاح وبشكل مبتذل لا يمكن أن ينطلي على وعي المواطن في سوريا وخارجها.

ومع ذلك فإن جملة معطيات المشهد السوري بامتداده الإقليمي من الممكن أن يشكل عاملا كابحا في وجه أي عدوانية أمريكية ـ صهيونية، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود خيارات عدوانية أخرى للضغط على سوريا، ذلك أن اليمين العقائدي الممثل بالمحافظين الجدد من المستبعد أن يستسلم بسهولة خاصة وهو يحاول رسم خريطة كل المنطقة بما يتفق ورؤية وزيرة الخارجية الأمريكية "الفوضى البناءة"، لذلك فإن تلك الإدارة ستعمد إلى البحث عن الذرائع في الوضع الداخلي السوري وكذا اللبناني في جانبه المناوئ لسوريا، وما اكثر حماقات ذلك اليمين المتصهين.

ويمكن القول على ضوء ذلك أن العامل السوري الداخلي هو العامل الحاسم المقرر في معادلة الصراع الذي بدأته الولايات المتحدة ضد سوريا والذي أخذ أبعادا جديدة بعد غزو واحتلال العراق، مع ضرورة عدم إغفال العوامل المساندة الهامة الأخرى من حلفاء سوريا في لبنان وفلسطين وعلى امتداد الشارع العربي، ومع ذلك فإن الكرة تبقى بشكل أساسي في مرمى النظام السوري الذي عليه أن يلتقط هذه اللحظة، وكذلك في أيدي القوى الوطنية والديمقراطية داخل سوريا وخارجها من أجل العمل معا على لجم هذا الجموح العدواني للإدارة الأمريكية ضد سوريا والأمة العربية، عبر إعادة ترتيب المشهد السوري الداخلي بما يكفل حقوق وواجبات الجميع في إطار سوريا التي هي لكل أبنائها دون امتيازات دستورية لهذا الطرف أو ذاك إلا المساواة التامة في المواطنة، وبما يمكّن الأمم المتحدة بعد ذلك من الوصول إلى الحقيقة في اغتيال الحريري لسد الذرائع خدمة لسوريا ولبنان العربي.

وهذا ما نتمناه لسوريا وأهلها.